مفهوم التحالف السياسي وإشكال التنزيل على علاقات المقاومة الفلسطينية وجهود إسنادها

استعمال مفهوم "التحالف" في التعبير عن علاقات المقاومة الفلسطينية وجهود إسنادها غير صحيح

"التحالف" بالفقه الإسلامي يقصد به مطلق التناصر والتعاضد والتآزر على الحق والخير والمصلحة

إسناد المقاومة الفلسطينية "تكليف عيني" أما "التحالف" فأمر اجتهادي يسع المسلمين تركه

دفع العدو الصهيوني "جهاد عيني" لا يختص بالفلسطينيين وانتقل منهم إلى عموم المسلمين في الأرض

الدول والحركات بإسنادها للمقاومة تؤدي تكليفاً قطعياً لا اختيار في إيقاعه ويطلب منها كوضع دائم

 قبول المقاومة لهذا الدعم واجب شرعي وتعاونها من أجل إيقاعه وتنمية منافعه فريضة محتمة


شاع في معظم الدراسات السياسية المعاصرة استعمال مفهوم التحالف -بحمولته الغربية كما سنوضح- في التعبير عن علاقات المقاومة الفلسطينية وجهود إسنادها، وهو أمر نعزوه إلى هيمنة المناهج الغربية في دراسة العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بيد أن الأشد غرابة هو ذيوع هذا المصطلح -بذات الحمولة ودون إعادة تعريفه في ضوء المنظور الحضاري الإسلامي- في التعبير عن جهود الأمة في مناصرة الشعب الفلسطيني وإسناد المقاومة الفلسطينية في السياق الإسلامي الفقهي والحركي والدعوي.

وترك استقرار هذا المفهوم في الخطاب الشرعي المتعلق بالقضية الفلسطينية آثاراً سلبية لا يقصد إليها الصادقون ممن ذهلوا عن التكييف الشرعي الدقيق لفعل الإسناد هذا، ويسارع إليها المتحيزون ضد المقاومة فيلبسون بمفهوم التحالف للهروب من الاستحقاقات طلباً لمغنم أو دفعاً لمغرم أو استرسالاً مع أهواء مدرسية أو مواقف مسبقة.

يتباحث هذا المقال مع أولئك الصادقين دون أن ينعى على جهودهم أو يغض من إسهاماتهم، إنما مراده الدعوة إلى التدقيق في التأثيل والتأصيل والتنزيل، وهو في هذا ينساق ضمن جهود أخرى تسعى لتأصيل القضية الفلسطينية من خلال منظور جامع، يضم النصوص إلى مقاصدها، والجزئيات إلى كلياتها، والنظر الأصولي إلى الحضاري.

إشكال التعبير بمفهوم التحالف السياسي:

لا ننفي هنا أصالة مفهوم الحلف والتحالف في الفقه الإسلامي والتشريع السياسي، الذي يقصد به مطلق التناصر والتعاضد والتآزر على الحق والخير والمصلحة، فهو استعمال دقيق إذا قصد به استيعاب جميع جهود التناصر على مستوى الأواصر المختلفة في الأمة، فيكون استعماله مناسباً بهذا المعنى لتحقيقه المقصود وعدم إيهامه بغير المنشود، فإذا استعمل في غير ما وضع له، أو على وجه ينقص من دلالته الواسعة كان مستكرهاً، والشأن هنا لا يخص هذا المفهوم بل جميع المفاهيم في الحقول المعرفية كافة؛ حيث إن سوء اختيار المفهوم أو عدم بيان دلالته لا يحقق مقصود الحوار والاتصال، والتثاقف والتفاكر؛ لأن شرطها الوضوح والدقة أو ما اصطلح عليه في المنطق بشرط الجامعية والمانعية بأن يكون اللفظ إزاء المعنى مطابقة أو مقاربة، فإذا أثار الغموض ولم يصب المطلوب أو كان غيره أدق منه في الدلالة أو أكمل منه في البيان لم يكن التعبير به موفقاً.

ويترتب على الاختلال في اختيار المفهوم بدقة أو بيان دلالاته بوضوح اختلالات أخرى في تعيين المسؤوليات وتحديد التكاليف؛ أي: إن خطورة المسألة لا تكمن في عدم التدقيق، بل فيما يترتب عليها.

وبالنظر إلى مفهوم التحالف السياسي، نلاحظ أنه -بدلالاته الغربية- يستبطن عدة معانٍ تتعارض مع النظر الشرعي والحضاري في وصف إسناد المقاومة، فالتحالف في النموذج الغربي يصدر عن الواقع لا التكليف، والمراد بالواقع هنا: الدولة القطرية الحديثة المفروضة على الأمة بجهود استعمارية معروفة؛ حيث إن قيام الدولة القُطرية في العالم الإسلامي يوهم بانفكاك الصلات بين الدول والشعوب والمكونات العربية والإسلامية، كما يستبدل مفردات التحالف والتكتل بمفردات التكامل والتضامن، والأخوة والتناصر.

ولا يجوز بحال أن تلغي حقيقة وجود الدولة القُطرية حقائق التكليف الشرعي العيني والكفائي المتوجه نحو الأمة، نعم يسهم الواقع في ترشيد النظر وتوجيه الحكم بالنظر إلى مشتملات الحكم الوضعي التي تؤطر الحكم التكليفي، ولكنها لا تبدل الأوضاع الشرعية.

ومن الإشكالات المرتبطة بالمفهوم في الاستعمال المعاصر: حصر دلالاته في المدونات الفقهية المعاصرة في إقامة المعاهدات والتحالفات بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول غير الإسلامية، بل يرد في كثير من الأحيان في سياق التحالفات العسكرية حصراً مع غير المسلمين، وإذا ورد في السياق الإسلامي فإنما يُلَمَّح إلى دلالاته اللغوية سريعاً، ثم يُؤَطَّر به تحالف الحركة الإسلامية مع التيارات العلمانية واليسارية والقومية.

ومنها كذلك: اختزال دلالات المفهوم في الأحوال الاستثنائية، والتعامل معه باعتباره وضعاً اضطرارياً، يقاس على شرب الخمر وأكل لحم الخنزير عند المخمصة، والأصل في جلب المصالح ودفع المفاسد على وجه الاشتراك والتضامن الديمومة والاتصال لا التأقيت والانقطاع.

ومن الإشكالات التي يثيرها المفهوم في سياق علاقات المقاومة خاصة، وبالإضافة إلى ما ذكر: توهم إسناد المقاومة الفلسطينية لمناصريها فيما هو موضع إنكار شرعي، أو متابعتها لهم فيما هو اجتهاد تدبيري في قضايا خارجة عن موضوع التناصر والتآزر، وهو مدافعة العدو الصهيوني، ونحسب أن التعبير بـ"حلف القدس" بدلاً من "محور المقاومة" في خطابات قادة المقاومة في السنتين الأخيرتين كان ضرباً من التدارك بغرض دفع هذا الالتباس، وهو احتراز مهم.

هذا، وإذا أردنا أن نحلل الأسباب والبواعث التي سهلت استعمال هذا المفهوم بدلالاته السلبية السابقة فهي ترجع -فيما نحسب- إلى أمور؛ أحدها: التسامح المنهجي في استعمال المفاهيم واستعارة المصطلحات، الذي تلبس به بعض الإسلاميين، وهو ما حذر منه بعض الرواد، فقدموا للمكتبة الإسلامية العديد من الإسهامات المعرفية في تأصيل المفاهيم من منظور حضاري إسلامي، محذرين من تحريف المفاهيم الأصيلة، وتفخيخ المفاهيم الوافدة، ومنبهين إلى ضرورة إعادة تعريف المفاهيم المشتركة في الثقافات المختلفة، ومن ذلك مفاهيم السياسة والتحالف ونحوها.

والثاني: غلبة النزعة الخطابية في تناول قضايا الأمة بما فيها القضية الفلسطينية، وضعف المشاركات التأصيلية، ما أفضى لعدم التدقيق في التصور والتكييف، وبالتالي لأخلال أخرى في التصديق والتنزيل.

والثالث: عدم التمييز بين التكليفين: العيني والكفائي، وتوهم وقوع التحالف في دائرة التكليف العيني.

وأمام هذه الأخلال أو الاختلالات، نقترح استعمال مفردة "الجهاد العيني" أو "المناصرة الواجبة" بدلاً من "التحالف السياسي"، دون الذهول عن الدعوة إلى إعادة تعريف التحالف السياسي في ضوء المنظور الحضاري الإسلامي، وعسى أن ننهض لهذا الأمر في عمل لاحق إن شاء الله.

إسناد المقاومة الفلسطينية من التحالف العسكري إلى الجهاد العيني:

يتحدد الجهاد الواقع اليوم مع العدو الصهيوني على أنه جهاد عيني بطريق القطع، وهو ما صرح به فقهاء العصر الثقات بلا خلاف، متابعين ما أجمعت عليه الأمة من وجوب دفع العدو عن ديار المسلمين، وهو آكد في دفعه عن قلب الجغرافيا الإسلامية وموطن الأنبياء ومهبط الرسالات ومسرى سيد الخلق والمرسلين، والجهاد العيني لا يختص بالفلسطينيين لعجزهم على مدار قرن عن طرد الاحتلال من الأرض المقدسة، ولذا انتقل الخطاب العيني منهم إلى دول الطوق ومنها إلى عموم المسلمين في الأرض كل بحسب وسعه وإمكانه.

وهكذا يقع كل جهد في مدافعة الاحتلال سواء في داخل فلسطين أو من خارجها امتثالاً لتكليف عيني، فيقع بذلك عن الفاعل لا نيابة عن أحد، وقد سبق أن نبهنا على خلل التعبير بنيابة الشعب الفلسطيني أو المقاومة الفلسطينية في جهاد ومدافعة العدو الصهيوني؛ لأن الجهاد مما لا يقبل النيابة أصلاً، وعدم قبولها في الجهاد العيني أظهر إذ لا يقع الفرض العيني إلا عن الفاعل، ولا يسعُ هذا الفرضُ غيرَ الفاعل، كما أن مقصود الشارع من الأعمال التي لا تجري النيابة فيها مثل الجهاد امتحان المكلفين فرداً فرداً، ولذا لا تحصل بفعل الغير، ينضاف إلى ذلك أن التعبير بالنيابة في أتون معركة حضارية يربك عقل المسلم المعاصر، ويوهم بكفاية انتهاض فريق من هذه الأمة لأداء هذا الواجب.

وإذا كان الأمر كذلك لم يصح وصف إسناد المقاومة الفلسطينية ولا علاقاتها مع مناصريها بالتحالف، لأن التحالف -بحمولته الغربية- إنما يقع عن مصلحة مشتركة مع الغير، دفاعية أو هجومية، تدعو إليها ظروف وأحوال معينة، ويحث عليها اجتهاد أو تدبير، وما كان كذلك فالأصل أن ينساق -في الرؤية الإسلامية- في الأحكام الكفائية الاجتهادية، أما دفع العدو الصهيوني عن الأرض المقدسة ومنعه من إزهاق دماء المسلمين وإيقاع أنواع الضرار بهم، فهي مصلحة تقع عن النفس ولا تسع للغير،ً فيجب طلبها من كل واحد من آحاد المسلمين فضلاً عن مكوناتهم الكبرى من دول وحركات ونحو ذلك، فهذه بإسنادها تؤدي تكليفاً قطعياً لا اختيار ولا اجتهاد في إيقاعه، ويطلب هذا الواجب منها في صورة وضع دائم لا حالة مؤقتة، وأمر محتم لا تدبير اضطراري، يقابل هذا الأداء الواجب خذلان محرم، وإثم حاق، وخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.

ثم إن قبول المقاومة لهذا الدعم واجب شرعي، وتعاونها من أجل إيقاعه وتعظيم مصالحه وتنمية منافعه فريضة محتمة، بل إن طلبها له وحثها عليه هو الآخر فريضة من الفرائض متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله تعالى بتحريض المؤمنين على القتال، كما أنه أمرٌ بمعروف ظهر تركه، ونهيٌ عن منكر شاع فعله، وأما المؤاخذة كل المؤاخذة فهي إنما تقع بخذلان المؤمنين في الأرض المقدسة، أو امتناع المجاهدين عن قبول جهود النصرة والتنسيق معها، أو تقصيرهم في طلبها وتحصيلها؛ إذ هم مأمورون بارتياد الأنفع للأمة ومقاومتها المباركة.

إن واجب ذوي النهى والأحلام من العلماء والمجاهدين الدعوة إلى تواثق عربي وإسلامي يضم مكونات الأمة كلها الظالم منها والمظلوم، الفاجر منها والتقي، السُّني منها والبدعي، الباغي والمبغي عليه مهما غلب على الظن رجاء النصرة منهم، بل إن واجبهم -بالإضافة إلى ما سبق- السعي إلى إقامة تحالف إنساني عام مع من يرجى منه دفع الظلم، وكف اليد، وحقن الدم، ودفع الغمة، ولا يضر أن يكون المستنهَض كافراً أو مشركاً.

ويتأكد هذا الوجوب في ظل شيوع الخيانة وذيوع الخذلان وقلة النصير وضعف الظهير، فيما يقابله في جهة العدو دعم عسكري وسياسي وأمني واستخباري وإعلامي لا ينقطع، وإمداد لا يمتنع

خاتمة:  

وفي الختام نقول: إنه إذا قبلنا التعبير بالتحالف بالنظر إلى صورة هذا التكليف العيني أو إلى أصله، فإنه لا يحسن التعبير به مع الوقوف على جوهره وماهيته.

وعلى وجه التنزل -لا التأصيل- نضيف: إذا تنزلنا لنقبل الإنكار على المقاومة بـ"التحالفات" القائمة بدعوى زيفها وصوريتها وعبثيتها، فإن الديانة والمروءة والرجولة تقتضي من المنكرين إقامة التحالفات الحقيقية وتوفير الدعم المجدي وتحصيل النصرة المثمرة.

ورحم الله الحطيئة الذي أدرك المروءة في الجاهلية والوفاء في الإسلام إذ قال:

أَقِلّوا عَلَيهِم لا أَبا لِأَبيكُمُ مِنَ اللَومِ       أَو سُدّوا المَكانَ الَّذي سَدّوا

أولَئِكَ قَومٌ إِن بَنَوا أَحسَنوا البُنى        وَإِن عاهَدوا أَوفَوا وَإِن عَقَدوا شَدّوا

وإن كان من نصح لقادة المقاومة الأبرار في سياق هذا المقال فهو دعوتها بمشورة أنصارها الأخيار من العلماء الأقمار والمفكرين الأحرار إلى مزيد من التجديد الاصطلاحي والإسناد المعجمي، جنباً إلى جنب مع وجوه المناصرة الأخرى بما يدفع التلبيس عن خطابها العادل وهتافها الراشد وندائها الصادق.

إن مفهوم التحالف لا يعبر تعبيراً دقيقاً عن تكييف إسناد المقاومة الفلسطينية، إذ إسنادها تكليف عيني، فيما يوهم مفهوم التحالف أن الأمر اجتهادي يسع المحالِف أن يتركه، أو يسع المحالَف أن يعرض عنه، والحال أن الإسناد وقبوله بل تنميته وطلبه فروض عينية واجبة بالنظر إلى موضوعه وهو دفع الصائل المعتدي عن قلب دار الإسلام.





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أستاذ مساعد بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر.

 

 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة