03 فبراير 2025

|

«أحد» في سورة «الصمد»

د. أسامة الملوحي

03 فبراير 2025

32

(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الإخلاص).

دلالات «قُلْ» في هذه السورة

تأتي «قُلْ» بعد سؤال أو تساؤل أو استيضاح أو لغط أو لفصل أمر وتمييزه عن غيره، وسؤال «قُلْ» يتضح من الإجابة (هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، من هو الله؟ من هو الله الذي تدعو إليه يا محمد؟

وهذا السؤال يحتمل أن يكون سائله من كل صنف ومن كل جهة، يحتمل أن يكون سائله مؤمناً يريد أن يعرف ربه وأصول صفاته، ويحتمل السؤال أن يكون صاحبه باحثاً عن الحقيقة ويريد أن يتبين فيهتدي ويترك الضلال الذي أضناه.

فهناك من يهتم كثيراً ويفكر ويبحث ويسهر الليالي متقلباً متأملاً قلقاً، بل جزعاً، ألا يصل إلى الحقيقة، وقد يكون مرتعباً أن يبقى في الضياع وما زال أمامه مجهول، وسر الوجود عنده مفقوداً. 

ولعل هذا الصنف يرقب كل ظواهر الكون والحياة، ويتتبع الحقائق والعلوم، ويستدلّ ويقرن ويقارن، ويحاول أن يربط، وهو أولى من غيره أن يسأل عن أمر يريده، ويريد انشراح الصدر فيه، وهو في بحثه الحثيث عن الخالق مشغول ومنهمك وفي جهد جهيد يكاد ينقض ظهره. 

ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان في اختلائه في غار حراء وفي تفكره وتدبره الحثيث وفي انقطاعه عن الناس للتفرغ لهذا الأمر ساعياً لانشراح الصدر والوصول، وقد تم له ذلك صلى الله عليه وسلم.

وقد يكون السائل الذي أتاه الجواب بعد (قُلْ) مشركاً، بل من المؤكد ومن البدهي أن يكون هناك تساؤل من كثرة كاثرة من قريش ومشركي العرب من هو الله عندك يا محمد، فالله عندنا معلوم، ونتقرب إليه كل يوم عن طريق أصنامنا العزيزة العتيدة التي لا نعبدها إلا لتقربنا إلى الله زلفى لصيقة وثيقة.

وقد تكون أصنامهم لصالحين ودعاة تعلقوا بهم وأحبوهم وأحبوا أعمالهم، فلما ماتوا ورحلوا أقاموا لهم التماثيل والنصب كتكريم وتعظيم وذكرى، وبعد حين اندثرت تعليمات الصالحين وبقيت تماثيلهم، ونشأ الشرك بعد التعظيم والتقديس؛ فعُبدت الأصنام تقرباً لله باعتقادهم؛ (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (الزمر: 3).

ويمكن أن نفترض أن السائل قد يكون من الذين اعتقدوا أن الله قد اتخذ ولداً؛ (وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) (الكهف: 4)، وهذه عقيدة ليست فقط عند المسيحيين الذين قالوا: إن المسيح هو ابن الله، وعند اليهود الذين قالوا: إن عزيراً ابن لله سبحانه؛ (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة: 30).

وإنما عند شعوب قديمة كثيرة كالإغريق واليونان والرومان كانت تحمل عقيدة أسطورية فيها أبناء أسطوريون للآلهة، لهم صفات خارقة؛ كأبناء زيوس وغيرهم!

وما بعد (قُلْيخاطب أيضاً من كان يؤمن بتعدد الآلهة وتخصص كل إله بشيء أو بمجال، فهذا إله الحب، وذاك إله الرياح.. وهكذا!

والجواب في هذه السورة هي لكل إنسان؛ مؤمناً كان أم كافراً أم باحثاً عن الحقيقة.

لفظ الجلالة وتفرده

لا بد من الوقوف عند كلمة (اللَّهُ) بعد الضمير المنفصل (هُوَ).

ففي لفظ (اللَّهُأتى بلا ريب من كلمة الإله، وال التعريف تعطي الدلالة أن الاسم معرفة وليس نكرة، وليكون في الاسم مع التعريف الخصوصية والتفرد حذفت الهمزة لمنع القطع؛ لأن الهمزة همزة قطع تقطع ما قبلها عما بعدها لفظاً؛ فازداد اللفظ لحمة وتفرداً وتميزاً؛ (اللَّهُ).

وفي اللفظ الأصلي «إله» معنى التحير؛ لأن العقول تأله في عظمته، وهناك أيضاً في «أله يأله» إلى كذا؛ أي لجأ إليه فهو من يُلجأ إليه سبحانه، وفي اللفظ أيضاً هناك (لَّهُ)، فله كل شيء وله الأمر والتدبير، وهناك الهاء عند لفظها وحدها مضمومة تشير إليه جل شأنه.

(هُوَ اللَّهُ): هو فقط الإله؛ أي من يمكن أن ندعوه حقاً بالإله المعرفة المتفرد باسم غير مقطوع لفظاً، وفيه حارت العقول ولجأت، وله كل شيء، والهاء تدل عليه، لفظ الجلالة «الله» اسم علم لم يكن لـ«أحد» سواه ولن يكون.

الواحد والأحد والفرق في الدلالة

الواحد والأحد كلاهما من أسماء الله جل شأنه، ووردت صفة الواحد 6 مرات في القرآن الكريم، وفي جميع المواضع اقترنت مع صفة «القهار»؛ (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الزمر: 4).

واقتران الواحد القهار في كل المواضع أمر لافت فيه التفرد مع الغلبة والكبرياء لله جل شأنه وحده، فلا قهار إلا واحد هو الله. 

والفرق بين الواحد والأحد أن الأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد، تقول: ما جاءني أحد؛ أي لا بد من النفي قبل «أحد» ليصبح المعنى ما جاءني ولا حتى واحد.

أما الواحد فاسم بني لمفتتح العدد، تقول جاءني واحد، ولا تقول جاءني أحد، وبعد الواحد هناك تتالٍ في الأرقام، فتستطيع أن تعد اثنين فثلاثة وهكذا، ولا يستقيم هذا أبداً مع «أحد»، فهو لفظ لا ينفع لافتتاح العدّ، بل هو أصلاً ليس للعدّ وليس لذكر الأرقام المتتالية.

التوجه بكل معانيه للأحد

(اللَّهُ الصَّمَدُ هو المقصود المتوجه إليه جل شأنه، وهي مرتبطة بصفة الأحد، فكل شيء يؤول إليه، وإليه تنتهي الأمور، وهو الذي يرث السماوات والأرض؛ (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران: 180).

وحتى الكافر يتجه إلى الله، فكل إنسان يتجه إليه بشكل حثيث لا يتوقف ولو كفر به وسيلاقيه؛ (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ) (الانشقاق: 6).

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ كما اسم الأحد في دلالته لا شيء قبله في الذكر ولا توالي بعده، فالأحد هو الأول وهو الآخر، فمن كان له والد فهو ليس الأول، ومن يمكن أن يكون له ولد فليس بالآخر، وحتى في الاستثناءين في الولادة؛ آدم، وعيسى، عليهما السلام، لم يجعل الله فيهما الأمرين، فآدم مولود له، وعيسى ولد، فلم بجمع بين الأمرين؛ (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) أحد إلا الله، ولا يكافئه أحد.

(وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ)؛ لقد عاد لفظ «أحد» مرة أخرى ليس فقط ليختم بها السورة، وإنما ليرسخ المحور الأساس لها.

و«الكفو» هو المكافئ، وليس المقصود المكافئ في الصفات، وإنما المكافئ في قدرها وحجمها وعظمتها.

فأنت عبد تستمد أصلاً من مولاك كثيراً من صفاته جل شأنه وحسب مدى التصاقك به تزيد وتزداد.

فالعبد رحيم ورؤوف وقوي وعزيز وما إلى ذلك من صفات، ولكن التمام والكمال وحجم الصفات اللامتناهي هو لله الأحد وحده، ولا يبلغ أحد سواه مدى الصفة وتمامها.

سورة لبها ومحورها «الأحد»، وفيها كل التوحيد الذي يؤطر ديننا وتفاصيل ما ورد في هذه السورة من معان أتى في ثلث القرآن الكريم.

وقد أورد البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ «قل هو الله أحد» يرددها، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها (يجدها قليلة)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن».


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة