05 فبراير 2025

|
حين يكون القرآن نبضاً للحياة..

صناعة الإنسان بين دفتي المصحف

عثمان الثويني

05 فبراير 2025

52

لا شيء يروي ظمأ الروح ويضيء عتمة الطريق كما يفعل القرآن، فهو ليس كتابًا يقرأ، ولا نصوصًا تحفظ، بل هو نبض للحياة، ومصباح يستضيء به السائرون نحو الخلود، حين يغمر نور القرآن قلبًا يافعًا، فإنه يشكّل شخصية ذات طراز فريد، متزنة في فكرها، راسخة في مبادئها، متوهجة بنور الفهم والعلم، تسير على الأرض ككوكب دري، لا تضلها العواصف، ولا تزلزلها المحن.

ما الذي يجعل الحلقات القرآنية ليست مجرد مجالس تحفيظ، بل مصانع حقيقية لإنتاج جيل استثنائي؟ إنه السر الكامن بين سطور الوحي، القادر على إعادة تشكيل الإنسان من الداخل، يرتّب روحه، ويصقل وجدانه، ويهذب جوارحه، حتى يصبح القرآن جزءًا من نسيج شخصيته، لا مجرد كلمات يكررها لسانه.

في زمنٍ تتلاطم فيه أمواج الفتن، ويغدو الأطفال أسرى لشاشات تفرغ أرواحهم من المعنى، تصبح الحلقات القرآنية كواحات ظليلة في صحراء القلق والتيه، حيث يجد الطفل فيها مرفأً هادئًا، وسكينةً تتغلغل في أعماقه، فيحفظ القرآن، لكن الأهم أنه يحفظه القرآن من الشتات والضياع. 

إن التربية القرآنية لا تقتصر على ضبط الألفاظ، بل تمتد إلى ضبط الحياة كلها، فتزرع في الطفل أخلاق الصدق، والصبر، والتواضع، والرحمة، وتمنحه قلبًا شفافًا يدرك المعنى العميق لكل كلمة يتلوها.

حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي جيل الصحابة، لم يكن يكدّس لديهم المعلومات، بل كان يصوغ أرواحهم بالقرآن، ينقش آياته في أعماقهم كما تنقش الرياح آثارها على الصخور، فكان الواحد منهم يقف عند كل آية، يحفرها في قلبه قبل أن ينطق بها لسانه، هذا المنهج القرآني في التربية، هو ذاته الذي جعل فتى صغيرًا مثل زيد بن ثابت يصبح كاتب الوحي، وأهَّل عبدالله بن مسعود ليكون من أعظم فقهاء الأمة، وهو ذاته الذي صنع رجالًا قادوا الدنيا بالفكر والسيف والعدل.

إن الحلقات القرآنية ليست فقط مشروعًا تعليميًا، بل هي ورش لصناعة القادة والمصلحين، حين ننظر إلى التاريخ، نجد أن أعظم الأسماء التي غيّرت مجرى الحضارة الإسلامية خرجت من ظلال المصحف، صلاح الدين الأيوبي الذي حرر القدس، لم يكن قائدًا عسكريًا فحسب، بل كان حافظًا للقرآن، يستمد منه قوته وبصيرته، وعمر بن عبدالعزيز، ذلك الخليفة الذي أعاد العدل إلى الأمة، لم يكن ليحقق هذا المجد إلا لأنه نشأ بين آيات القرآن، فصار العدل يسري في دمه، هذه ليست مصادفات، بل سنن كونية؛ من حمل القرآن في قلبه، حملته الأقدار إلى القمم.

الأثر العلمي للحلقات القرآنية أعمق مما نتخيل، فالطفل الذي يحفظ القرآن، يعيش وسط بحر من اللغة الفصحى، فتتكون لديه قدرة فريدة على التحليل والتفكير الناقد، وقد أثبتت الدراسات أن الأطفال الذين ينشؤون على تلاوة القرآن يتمتعون بذاكرة حادة، وانتباه شديد، وقدرة استيعاب أعلى من غيرهم، لأن القرآن ليس مجرد كلمات، بل هو برنامج متكامل لتشغيل العقل والروح معًا.

أما الأثر النفسي، فلا يمكن أن يجادل فيه إلا من لم يجرب أن يعيش لحظة واحدة في حضرة القرآن، فالطفل الذي يكبر بين آيات الرحمة والمغفرة، لا يمكن أن يعرف القسوة أو الجفاف الروحي، والأبناء الذين تربوا في حلقات القرآن، تجدهم أكثر هدوءًا، وأقل توترًا، ينظرون للحياة نظرة أوسع، لأنهم أدركوا مبكرًا أن الدنيا ليست إلا رحلة قصيرة نحو الله.

يبقى التحدي الأكبر هو كيف نحبب أبناءنا في القرآن؟ إن أعظم طريقة لترغيبهم هي أن يروا القرآن فينا قبل أن نطلب منهم أن يحفظوه، أن يسمعوا منا قصص الذين غيّرهم القرآن، أن نحتفل معهم بكل إنجاز يحققونه، أن نجعلهم يشعرون أن القرآن ليس فرضًا، بل هدية عظيمة، وقصة حب مع الله لا تنتهي، يجب ألا نحبس القرآن داخل الأطر التقليدية، بل نقدمه بأساليب إبداعية، عبر التطبيقات التفاعلية، والمنافسات المشوّقة، والرحلات القرآنية التي تجعلهم يعيشون معانيه بدلًا من أن يحفظوها فقط.

إن أعظم ما يمكن أن يقدمه الوالد لابنه ليس مالًا، ولا ميراثًا، بل أن يورثه حب القرآن، فالأموال تفنى، والشهادات الورقية قد لا تجد لها قيمة، لكن القلب الذي امتلأ بنور الوحي، سيظل مشرقًا ما دام فيه نبض، وكما قال أحد العلماء: «إن أردت أن ترى مستقبل الأمة، فانظر إلى أطفالها اليوم، هل في أيديهم المصاحف أم الهواتف؟ هل يرددون كلمات القرآن أم كلمات المشاهير؟».

الحلقات القرآنية ليست نشاطًا جانبيًا، ولا رفاهية يمكن الاستغناء عنها، بل هي طوق النجاة لهذا الجيل، فهي وحدها القادرة على إعادة تشكيل العقول، ورفع الهمم، وإحياء روح الأمة من جديد، فالأمة التي تحفظ كتابها، تحفظ مجدها، والأمة التي يضيع قرآنها، لا يمكن أن تقف على قدميها أبدًا، قد نختلف في كل شيء، لكننا نتفق جميعًا أن من كان القرآن رفيقه، كان الله معه، ومن كان الله معه، فليهنأ بحياة النور والعز والخلود.


كلمات دلاليه

تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة