السياسة الشرعية في فرض الصيام

يعلمنا الله تعالى السياسة الشرعية في أبهى صورها، وحيث إن البشرية كلها تتلقى علمها من كتاب الله تعالى، فكان القرآن في أوامره ونواهيه يراعي تعليم البشرية السياسة الشرعية، وهنا لزم القادة والولاة والأمراء والوزراء أن يتعلموا من القرآن كيف يسوسون البشرية؟

فالله تعالى له الخلق وله الأمر ولا معقب لحكمه، قال تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (الأعراف: 54)، وكان الله عز وجل قادرًا أن يأمر مباشرة عباده بالصوم، ولكن لرحمة الله تعالى بخلقه أراد أن يحببهم في الصوم، ويهون عليهم التكليف لما فيه من مشقة، بل ويعرفهم مشقته، ويبين لهم عظم الجزاء لتهون عليهم لحظات التعب والجوع والعطش.



أثر القرآن الكريم والصيام في سمو الإنسان في الحياة اليومية |  مجلة المجتمع الكويتية
أثر القرآن الكريم والصيام في سمو الإنسان في الحياة اليومية | مجلة المجتمع الكويتية
القرآن الكريم والصيام من أعظم العبادات التي يتقرب بها المسلمون إلى الله، حيث يساهمان في بناء العلاقة العميقة بين الفرد وربه، وفي شهر رمضان يكون المسلمون أكثر قربًا إلى الله وأكثر عطاءً، حيث يُعتبر موسمًا للعبادة المركَّزة، التي تحسن الذات، وتعزز القرب من الله.
mugtama.com
×



بيان مشقة الصوم

بالنظر في صيغة التكليف بالصوم يعرف المرء قدر ما فيه من مشقة على النفس، ورغم كون النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام يعرفون الصوم وكانوا يصومون قبل فرض شهر رمضان عليهم، مثل صوم يوم عاشوراء، فإن صوم رمضان يختلف لكونه صيام شهر كامل متواليًا دون انقطاع، وهنا مكمن المشقة، لذا لما جاء التكليف بلفظ كُتِبَ، وكل ما جاء بلفظ كتب فيه مشقة على النفس، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) (البقرة: 178)، وقال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) (البقرة: 216)، وقال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) (البقرة: 180)، ولا يخفى ما في هذه الأحكام من مشقة على النفس.

وكذلك جاء فرض الصوم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183} أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 183)، وذلك لما في الصيام من مشقة الجوع والعطش والحرمان من الملذات التي فُطِرت النفس عليها وعلى حبها، ولذلك نلمس هنا قيمة السياسة الشرعية الرحيمة من الله تعالى.

سياسة الله الشرعية في التكليف بالصوم

ولأن في الصوم مشقة كما علمنا، لذلك أراد الله تهوين ذلك وتخفيفه على المؤمنين، حتى يتدربوا ويتعودوا عليه، وبرزت تلك السياسة فيما يلي:

أولًا: قوله تعالى في بدء التكليف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، فلم يقل: يا أيها الناس، ولا يا أيها الذين أسلموا، فخطاب الإيمان محبب للنفس، ثم كونه مؤمنًا فيه إشعار بمسؤولية الإيمان، فلا بد من القيام بتكاليف الإيمان، وفيه بيان أن من آمنت به ربًا هو الذي كلفك لتستشعر ما في التكليف من لطف رباني ورحمة وإن كانت خفية على النفس.

ثانيًا: قوله تعالى: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)، فما الحاجة أن يعرفنا الله بهذا؟ الحاجة لنا أن نعرف أن من قبلنا كلفوا به، إذن هو من تمام الإيمان ومن شروط الإسلام، وهنا يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلمنا أن الصوم ركن من أركان الإسلام في حديث «بني الإسلام على خمس»(1)، ثم كونه كتب على الذين من قبلكم إذن فهم أطاقوه وهكذا أنتم، وكذلك كتبه عيهم لأنه يحب أن يعبدوه به، وأنتم أولى بذلك لأنه يحبكم ويحب أن تعبدوه بما يحب، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: عن الله تعالى قوله: «وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه»(2).

ثالثًا: قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وهذا تحبيب للصحابة في صوم رمضان، إذ التقوى من أعظم أهدافهم التي يريدونها، فهي سبب نجاتهم يوم القيامة، فلو عرفوا أن الصوم طريق لها لأحبوه، ولتحملوا مشقته طالما سيصل بهم إلى تقوى الله تعالى.

رابعًا: قوله تعالى: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ)، وانظر هنا لِلَّفْتَة العظيمة في تهوين الصعب عليهم؛ أي أنه سرعان ما ينتهي فاصبروا عليه، وربما لفتة مهمة لاغتنامه من أول لحظة لأنه سريع المرور، وصدق ربنا فما أن استقبلنا الشهر الكريم حتى بدأنا في وداعه.

خامسًا: قوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، وفي ذلك تطمين لأهل العمل والسفر والتجارة وكذلك للمرضى، حتى لا يكونوا في قلق على مصالحهم أو صحتهم، وهذا أيضًا من السياسة الشرعية.


الصيام الرفيع |  مجلة المجتمع الكويتية
الصيام الرفيع | مجلة المجتمع الكويتية
  الصيام من الشعائر القديمة المشتركة في جميع...
mugtama.com
×


سادسًا: قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، وهذا كان في بداية فرض رمضان فقد خيرهم سبحانه وتعالى بين الصوم والفطر مع الفدية، وانظر هنا لعظيم السياسة، فهي مرحلة من مراحل تدرج التشريع، ثم ليعتادوا على الصوم، وكذا احتياج الفقراء منهم لطعام الفدية، وكان ذلك قبل إيجاب الصوم على كل مستطيع في الآية التي بعدها.

سابعًا: قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185)، فيقول لهم هذا الشهر الذي كرمته بالقرآن لزمكم أن تكرموه بالصيام، والقرآن غذاء الروح وحياة القلب، والصيام يجعلكم تتشبهون بالملائكة فتسمو أرواحكم، لأن الطعام والشراب والشهوات غذاء النفس والبدن، وهي مما يثقل الروح عن طاعتها وعن سموها، فلا بد من مساعدتها على تقبل القرآن والعيش معه بالانقطاع عن ملذات الحياة الدنيا.

ثم تأتي مرحلة فرض الصيام إلزامًا ونسخ التخيير في صوم الشهر، وذلك بقوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، ولم يستثن هنا إلا أصحاب الأعذار كما استثناهم في النداء الأول، فيعود لطمأنتهم بقوله تعالى: (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

تاسعًا: يعود الله تعالى للسياسة الشرعية حتى بعد الإلزام بالصوم لغير أصحاب الأعذار فيقول سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)؛ أي اعلموا أن فرض الصيام من اليسر عليكم وليس من العسر، فالله لا يريد بكم إلا الخير، والصوم يسر لكم في الدنيا، كما أنه يسر لكم في أطول الأيام يوم القيامة، فيومها يكون أهل الصيام في الدنيا هم أهل الري من العطش في ذاك اليوم العصيب، ثم يأتيهم أعظم يسر لهم بشفاعة الصوم لهم يوم عرضهم على الله تعالى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ»(3).

عاشرًا: ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم بواحدة عظيمة من السياسة الشرعية أيضًا لتحبيب الأمة في الصيام، وهي بيان جزاء الصائم في الآخرة، وكيف أن له أجرًا مخصوصًا عند الله تعالى، عَنْ سَهْلٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ، فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ»(4).





_____________________

(1) وذلك من الحديث المتفق عليه عن ابن عمر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» (صحيح البخاري، 8).

(2) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ قَالَ: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» (البخاري، 6502).

(3) رواه الإمام أحمد (6626)، وحسنه الألباني.

(4) متفق عليه، واللفظ للبخاري (1896).


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة