القواعد الناظمة للسياسة الشرعية

المقصد الأساس من السياسة الشرعية هو جلب مصالح الدارين، ودفع المفاسد عنهما، فالدين كله سياسة لإصلاح الدنيا ودرء المفاسد عنها، ولإصلاح الآخرة ودرء المفاسد عنها، وتُدرك المصالح والمفاسد إما بالنصوص أو بالاجتهاد، وإدراك المصالح والمفاسد بالاجتهاد بحر عميق لا ينبغي أن يلجه إلا المتبحرون بالفقه والأصول من أصحاب الخبرة، فلا يصلح أن يتحدث فيه المبتدئون، ولتحقيق ذلك فقد نظم الفقهاء مجموعة من القواعد الحاكمة التي تضبط الحاكم في سياسة الرعية، ومن هذه القواعد:

أولاً: مشاورة أهل الحل والعقد في أمور الدولة وسياسة الرعية، قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، ووجوب مراجعة الحاكم -إذا لم يبلغ مبلغ الاجتهاد- للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء في جميع أعماله حتى لا تخالف أحكام الشريعة.

ثانياً: موافقة الشرع: السياسة المخالفة للشرع وإن كانت تحقق بعض المصالح فهي ليست سياسة على الحقيقة وإن سميت بذلك، فالعبرة بالحقائق لا بالمسميات، قال ابن مفلح: «أكثر السلاطين يعملون بأهوائهم وآرائهم لا بالعلم، ويسمون ذلك سياسة، والسياسة هي الشريعة»(1)؛ إذ لا مكان لاتباع الهوى في الشريعة.

الدين كله سياسة لإصلاح الدنيا ودرء المفاسد عنها ولإصلاح الآخرة ودرء المفاسد عنها

وقد خاطب الله تعالى أنبياءه ونهاهم عن اتباع الهوى، فمَن دونَهم بالخطاب أولى، وعلى الإمام الالتزام بأحكام الشريعة كسائر المكلفين، قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) (ص: 26)، وقال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الجاثية: 18)، وبيّن لنا الله تعالى أنه لا أضل ممن اتبع هواه، قال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ) (القصص: 50).



مقاصد السياسة الشرعية وغاياتها |  مجلة المجتمع الكويتية
مقاصد السياسة الشرعية وغاياتها | مجلة المجتمع الكويتية
فما حققت من السياسات مصلحة للأمة، أو دفعت عنها مفسدة فهي داخلة في إطار السياسة الشرعية، وما لم تحقق منها مصلحة للأمة أو لم تدفع عنها مفسدة فليست من السياسة الشرعية في شيء
www.mugtama.com
×

وقد كتب ابن تيمية رسالة في السياسة الشرعية، جاء في أولها: «فهذه رسالة مختصرة فيها جوامع من السياسة الإلهية»(2)، وكذا قال ابن الجوزي: «الشريعة سياسة إلهية»(3)، فتسميتها بالسياسة الإلهية فيه تصريح بأن السياسة التي يعتد بها شرعاً هي السياسة الموافقة للشريعة التابعة لها، فالمهمة الرئيسة للإمام هي حفظ الدين ونشر الدعوة إلى الله تعالى وإقامة العدل ومنع الظلم والفساد، وأن يكون وليّ مَن لا وليّ له، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي»(4)، فالسياسة: قيام الولاة على شأن الرعية بما يصلحهم ويدفع عنهم غوائل الفساد.

ثالثاً: «لا ضرر ولا ضرار»، وهذه القاعدة نص نبوي(5)، وتعتبر من أعظم قواعد الفقه في السياسة الشرعية، وينبني على هذه القاعدة فروع فقهية كثيرة، وجاء لفظاً الضرر والضرار بصيغة النكرة بعد النفي ليفيدا الاستغراق والعموم، فالضرر لا تجيزه الشريعة لأحد ابتداء، وأحكام الشريعة تخلو من الضرر وإن كان فيها الحدود والعقوبات التعزيرية، وإن وقع الضرر فإن الواجب إزالة آثاره عن طريق التعويضات المشروعة.

لذا تفرع عن هذه القاعدة عدة قواعد، منها: «الضرر يزال»، و«الضرر يدفع بقدر الإمكان»، فإن أمكن دفع الضرر كله فبها ونعمت، وإلا فإنه يدفع منه ما أمكن، وأيضاً قاعدة «احتمال أخف الضررين»، فقد لا يتم دفع الضرر إلا بالوقوع بضرر آخر أقل من الضرر المدفوع، ولنا في قصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح هذا النموذج القرآني في دفع الضرر الأشد بالأخف، حيث خرق السفينة، وقتل الغلام، وبنى جداراً في قرية لم تكرمه.

وتحديد أخف الضررين أو شر الشرين لا يخضع للعاطفة والجانب النفسي للإنسان، بل لا بد أن يكون خاضعاً للمعيار الشرعي، فقد يكون أخف الضررين شرعاً هو الأصعب والأشد في الظاهر، وذلك كمحاربة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

رابعاً: إذا اجتمعت المصلحة والمفسدة فالعمل على أرجحهما، ومن صور هذه القاعدة: فداء أسرى المسلمين من أيدي العدو ببذل المال لهم، فمصلحة فداء الأسرى هنا راجحة على مفسدة إعطاء المال للعدو.

الأولويات النسبية تختلف من بلد إلى آخر بحسب ما يحتاجه كل بلد بشكل أهم من غيره

خامساً: مراعاة المآل، والمآل هو عاقبة الأمر أو ما ينتهي إليه، وهذه القاعدة العظيمة تدعونا إلى عدم الإقدام على عمل إلا بعد النظر في عاقبته، وهذا أمر ينبغي للحكام إتقانه لما ينبي عليه من جلب مصالح أو دفع مفاسد، فقد يكون ظاهر الأمر خيراً وعاقبته شراً، أو العكس، فلا بد من التبصر في الأمر ومعرفة ما يتعلق به من دلائل وقرائن قبل الإقدام عليه.

ومن صور هذه القاعدة: امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين، وعلل ذلك بقوله: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»(6)، ومنها ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: «لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس وباب يخرجون»(7)، وقد ترجم البخاري للباب الذي ذكر فيه هذا الحديث بقوله: «باب: من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه»، وما أحسن قول ابن حجر عندما علق على الحديث: «وفيه اجتناب ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا»(8).

سادساً: تقديم الأَولى، عند تزاحم الأعمال وتضايق الأوقات فإنه يتحتم علينا تقديم الأولويات؛ لذا ينبغي للحاكم إدراك فقه الأولويات ومعرفة مداركه، والحديث هنا عن الأولويات النسبية التي قد يحدث فيها التفاوت بحسب الزمان والمكان والحال، ذلك أن الأولويات المطلقة المتعلقة بالإسلام وأركانه فإنه يحتاج إليها في كل زمان ومكان، والأولويات النسبية تختلف من بلد إلى آخر بحسب ما يحتاجه كل بلد بشكل أهم من غيره.

فأولوية أهل فلسطين دفع الاحتلال عن أرضهم -ولعمر الله أصبح هذا الأمر أولوية الأمة الإسلامية- وأولوية الأقليات المسلمة في الغرب الحفاظ على هويتهم الإسلامية، وهكذا تتفاوت الأولويات من مكان إلى آخر، بل ومن شخص إلى آخر، فتختلف أولويات الغني عن الفقير، والقوي عن الضعيف، والعالِم عن غيره.

وبعد، فهذه بعض القواعد الناظمة للسياسة الشرعية التي إن التزمها الحكام وُفقوا إلى جلب المصالح للعباد والبلاد، ودفع المفاسد عنهما، وهذا يقتضي منهم الحرص على أن يكون في بطانتهم العلماء الربانيون وأصحاب الرأي والخبرة.

 

 

 

 

_____________________

(1) ابن مفلح، الفروع (6/ 386).

(2) ابن تيمية، السياسة الشرعية، ص3-4.

(3) ابن الجوزي، تلبيس إبليس، ص188.

(4) رواه الشيخان، واللفظ لمسلم.

(5) السيوطي، الجامع الصغير (ح9880).

(6) رواه الشيخان.

(7)  المرجع السابق.

(8)  ابن حجر، فتح الباري (3/ 448).


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة