21 فبراير 2025

|

الشهداء.. أحكام وأحوال

الشهادة منزلة رفيعة في دين الله، تلي منزلة النبيين والصديقين؛ قال سبحانه: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ) (النساء: 69)، وهو لقبٌ شرعيٌّ شريف ما ينبغي أن نتساهل في إطلاقه على كل من هبَّ ودرج، بل حريٌّ بنا أن نصونه عن الابتذال، وأن نحميه من أن يُدنس شرفه، بإطلاقه على من لا يستحقه ولا هو مؤمن بحقيقته.

فقد صار هذا اللقب الشريف في زماننا يطلق كثيراً على من لا يستحقه؛ فلربما ناله من عُرف عنه عداوتُه لله ورسوله وسعيُه بالفساد في الأرض، ولربما قيل في حق من امتلأت صفحاته بالسخرية من الدين وأهله، وتحقير شعائر الله، ولربما أضفاه الناس على أجلب بخيله ورجله يبتغي الفتنة، وهذا كله تجاوز لحدود الله ومداهنة في دين الله.

وثمة أسئلة أربعة: من هو الشهيد؟ ولماذا سمي شهيداً؟ وما أقسام الشهداء؟ وما منزلة الشهيد في دين الله؟ 

أولاً: الشهيد يطلق بالأصالة على من يُقتل أثناء حرب مع العدو الكافر، سواء أكانت المعركة جهاد طلب أم جهاد دفع.

وقد عرَّفه الحنفية بأنه المُسلم، المُكلّف، الطاهر، الذي يُقتل ظُلماً بِجارحة، كقطع الطريق عليه؛ فلو قُتل من غيرِ ظُلم؛ كالحدِّ أو القِصاص، فلا يُعدُّ شهيداً، وكذلك مَن مات متأثّراً بجراحه بسبب معركة، وعرّفهُ جمهور الفقهاء: بأنّه الذي يُقتل في المعركة. 

وثمة شروط لنيل هذه المنزلة الشريفة؛ قال السبكي في فتاواه عندما سئل عن الشهادة وحقيقتها، قال: إنها حالة شريفة تحصل للعبد عند الموت لها سبب وشرط ونتيجة. 

ومن هذه الشروط: الصبر والاحتساب، وعدم الموانع كالغلول، والدَّين، وغصب حقوق الناس، ومن الموانع كذلك: أن يموت بسبب معصية كمن دخل داراً ليسرق فانهدم عليه الجدار فلا يقال له شهيد، وإن مات بالهدم، وكذلك الميتة بالطلق الحامل من الزنى. 

ثانياً: في سبب إطلاق هذا اللقب عليه ذكر النووي في شرح صحيح مسلم عدة أسباب؛ فقيل: 

- لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ يشهدون لَهُ بِالْجَنَّةِ، فَمَعْنَى شَهِيدٍ مَشْهُودٌ لَهُ.

- لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ ماله مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ. 

- لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ يشهدون فَيَأْخُذُونَ رُوحَهُ.

- لِأَنَّهُ شُهِدَ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَخَاتِمَةِ الْخَيْرِ بِظَاهِرِ حَالِهِ.

- لِأَنَّ عَلَيْهِ شَاهِداً يَشْهَدُ بِكَوْنِهِ شَهِيداً وَهُوَ دَمُهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَماً.

- وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ قَوْلاً آخَرَ أَنَّهُ سُمِّيَ شَهِيداً لِكَوْنِهِ مِمَّنْ يَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْأُمَمِ.

ثالثاً: وأما أقسام الشهداء فهي ثلاثة: 

أولهم: أما شهيد الدنيا والآخرة فهو الذي يُقتل في أثناء جهاده ضدّ أعداء الدين، مُقبلاً غير مُدبرٍ؛ لأجل إعلاء كلمة الله تعالى من غير نظرٍ إلى أغراض الدُّنيا، فقد قالَ أَعْرَابِيٌّ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، والرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، ويُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَن في سَبيلِ اللَّهِ؟ فَقالَ: «مَن قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، فَهو في سَبيلِ اللَّهِ»، ففي الدُّنيا شهيد؛ لأنهُ تُطبّق عليه أحكام الشهيد في الدُنيا؛ فيُكفّن بثيابه، ولا يُغسّل، ولا يُصلَّى عليه، وفي الآخِرة ينال منزلة الشُهداء.

والثاني: شهيد الآخرة؛ فهو الذي لا تُطبَّق عليه أحكام الشهيد في الدُّنيا؛ كالتكفين بثيابه، ولكنّ له أجر الشهيد في الآخِرة، وهم على عدّة أصنافٍ؛ كالغريق والحريق والمبطون، وهو صاحب داء البطن، وهو الإسهال، وقال القاضي: قيل: هو الذي به الاستسقاء وانتفاخ البطن، وقيل: هو الذي تشتكي بطنه، وقيل: هو الذي يموت بداء بطنه مطلقاً، والمطعون، وهو الذي يقعُ في أرضه الطاعون ولا يخرج منها صابراً مُحتسباً ويموت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطَّاعونُ شَهادةٌ لِكُلِّ مسلِمٍ». 

والمهدوم وهو الذي يسقط عليه البناء؛ فيصدق هذا في حق كثير من أهل غزة ممن هدمت عليهم بيوتهم، والمرأة التي تموت بسبب الولادة، وتُسمّى ذاتُ جُمع؛ أي تموت وفي بطنها ولد، فإنها ماتت مع شيء مجموع فيها غير منفصل وهو الحمل، وصاحب ذات الجنب؛ وهو الذي يظهر في جنبه الدُمّل الكبيرة، وتنفجر داخل الجسم ويموت بسببها، وكذلك الذي يموتُ بِداء السّل. 

ووردت بعضُ هذه الأنواع في قول النبيّ عليه الصلاةُ والسلام: «الشهادةُ سبعٌ سوى القتلُ في سبيلِ اللهِ، المقتولُ في سبيلِ اللهِ شهيدٌ، والمطعونُ شهيدٌ، والغريقُ شهيدٌ، وصاحبُ ذاتِ الجنبِ شهيد، والمبطونُ شهيدٌ، وصاحبُ الحريقِ شهيدٌ، والذي يموتُ تحتَ الهدْمِ شهيدٌ، والمرأةُ تموتُ بجُمْعٍ شهيدة»، قال الحافظ، في «الفتح»: وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة، وذكر منهم اللديغ، والشريق، والذي يفترسه السبع، والخارُّ عن دابته، والمائد في البحر الذي يصيبه القيء، ومن تردى من رؤوس الجبال.

قال النووي في شرح صحيح مسلم: قال العلماء: وإنما كانت هذه الموتات شهادة يتفضل الله تعالى بسبب شدتها وكثرة ألمها، وقال ابن التين: هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبلغهم بها مراتب الشهداء. 

والثالث: شهيد الدنيا هو الشّهيد الذي تُطبّق عليه أحكام الشهيد في الدنيا؛ كتكفينه بثيابه، وعدم تغسيله أو الصّلاة عليه، ولكنّه لا ينالُ أجر الشهيد في الآخرة، وهذا النوع هو الذي يُقتل في المعركة، ولكن جهادهُ لم يكُن لأجل الله تعالى، أو يكون قد غَلّ في الغنائم، أو قاتل سُمعةً ورياءً، أو لأيِّ غرضٍ من أغراض الدُنيا، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ أولَ الناسِ يُقضى يومَ القيامَةِ عليه رجُلٌ استُشهِد فأتى به فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتَلتُ فِيكَ حتى استُشهِدتُ، قال: كذَبتَ، ولكنَّكَ قاتَلتَ لِأَنْ يُقالَ جَريءٌ، فقد قيل، ثم أمَر به فسُحِب على وجهِه حتى أُلقِيَ في النارِ».

رابعاً: الشهيد عند الله بمكان عظيم، وقد دلت على ذلك النصوص القرآنية؛ كقوله تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) (البقرة: 154)، قال الحسن: إن الشهداء أحياء عند الله تعالى، تُعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح، كما تُعرض النار على آل فرعون غدوة وعشية فيصل إليهم الوجع.

وبعد معركة «أحد»، قال المنافقون عن شهداء المسلمين: (لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ) (آل عمران: 156)، فقال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169).

وبلغ من رفعة منزلة الشهيد عند الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمناها، فقد روى البخاري في صحيحه قوله: «تكفَّل الله لمن خرج في سبيله، لا يُخرجه إلا جهاد في سبيلي؛ فهو ضامن عليَّ أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده ما من كَلْم يُكْلَمُ في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلِم، اللونُ لونُ الدم، والريحُ ريحُ المسك، والذي نفسي بيده لولا أن يَشقَّ على المسلمين ما قعدتُ خلاف سرية تغزو في سبيل الله، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلّفوا عني، ولوددت أني أُقتل في سبيل الله ثم أُحيا ثم أُقتل ثم أُحيا ثم أُقتل». 

وأخبرنا أن أرواح الشهداء في جوف طير خضر لها قناديل معلقة تحت العرش تسرح في الجنة حيث شاءت، وقال عليه الصلاة والسلام: «للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه» (رواه ابن ماجه، والترمذي، وأحمد، وصححه الألباني).


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة