20 فبراير 2025

|

رمضان.. وممارسة مسلَّمات الشريعة

د. محمد أحمد عزب

18 فبراير 2025

5302

يدخل علينا رمضان دخول الضيف الكريم، بما يحمل من الخير والإكرام، نفوس كثيرة تغدو وتروح أرقاً من دخول الشهر، فإن عاداته المألوفة سوف تتبدل؛ طعامه وشرابه، عمله، كل شيء سيصير خلال الشهر مختلفاً، فيخشى الفوت والسقوط في الشهر الكريم.

وآخرون ينتظرون الشهر انتظار الأهل للغائب الكريم، ويعدون الساعات شوقاً إليه، لا حرج على الخاشي والمتشوق؛ لأن رمضان له رهبة وله شوق، وكل يراه بمرآة نفسه واستعداده. 

إن المسلم إذا لم يخطط لرمضان، وينوي قبل دخوله وفي أوله خيراً، فاته رمضان وجلس في آخر لياليه نادماً عاضاً على أنامله، فقبل دخول الشهر يفكر كيف سيفوز في لياليه كلها، وليلة القدر خاصة، يفكر كيف سيكون ورده من القرآن، وكيف ستكون علاقته بالذكر والاستغفار، كيف سيقيم في صيامه شعبة من شعب الإيمان السبعين لم يفعلها، أو تركها وقرر العودة لها، كيف سيزيد في بر هذا العام عما سلفه من الأعوام، فقد اقترب من الآخرة بمقدار ما سلف من عمره.

مسلمات الشريعة

إن مسلمات الشريعة تختلف حولها الأنظار، في النظر للأهم منها في السلوك والاحتذاء. 

تأتي أركان الإيمان كإطار مهم لما يجب مراعاته من الصائم نحو صيامه وعبادته عامة، وإذا كانت المقالة لا تتسع كمًّا لتسليط الضوء على ما يمكن للصائم أن يرعاه من أمور الشريعة وثوابتها العبادية بأيسر السبل، فإننا نكتفي بأركان الإيمان في حدود كمية مناسبة.

فركنها الأول الإيمان بالله تعالى، وليس المراد بالإيمان جانبه العقدي، فهذا مستواه لا يتبدل في أي زمن، ولكن المقصود سلوك الإيمان وممارسته، فالمؤمن يدفعه إيمانه بالله لأن يفعل الأمر حباً ورجاء، ويترك النهي إجلالاً لمولاه: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ) (الحج: 30)، والحرمات هي ما لا يحل انتهاكها(1)، (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32).

وأياً كان السياق الذي وردت فيه الآيات؛ فمسألة التعظيم للشعائر والمحرمات ركيزة الإيمان بالله تعالى، يعززها الصوم الذي لا يراه ولا يطلع على حقيقته غير الله تعالى.

وإنك لتعجب أشد العجب من صائم يؤمن بالله ويزعم خشيته في الغيب والشهادة، وله ورد دائم من القرآن، ثم لا تروق له أحكام الله، فيأكل الربا غير هيَّاب، ويحيف في المواريث غير خجلان، ويظلم الأيامى والمستضعفين من النساء والولدان، يشتري من ريع مظالمه تمراً يفطر به عند المغرب، أو يصارع خصومه بالزور في دور القضاء، ولا يتورع عن إنكار ديْن لزم في عنقه لم يكتبه عليه الدائن، أو يخون شريكه في تجارة بينهما!

والعجب حين ترى في دور القضاء نكراً بين زوجين، يحرص كل واحد منهما على الإضرار بالآخر، بكل سبيل، ثم يذهب أو تذهب من دار القضاء ظهراً لصلاة العصر جماعة، والاستدارة في حلقة قرآنية، والانفراد بعدها للورد القرآني والإفطار على نقيع التمر؟! وقد جاء أو جاءت للتو من مظلمة، تولى هو أو هي كبرها، ثم ترفع الأيدي لله الذي يؤمنان به أن يثبت الأجر بعد ذهاب الظمأ وابتلال العروق!

في الملائكة أسوة للصائمين

نزعم أن قيمة الإيمان بالملائكة لم تأخذ حظها في الدرس الدعوي والخطابي كما ينبغي، اللهم إلا إشارات تختص بجانب العقيدة لا الممارسة، فغفل عن التنويه بهم في باب السلوك والاتباع، والصيام انتقال بالإنسان إلى حالة يتشبه فيها بهم، فالملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناسلون، والصائم وقت صيامه كذلك، يمتنع في الزمن المخصوص عن شهوات النفس والجسم، والملائكة كما وصفهم كعب لعمر رضي الله عنهما، قائلاً: والله إن لله لملائكة قياماً منذ يوم خلقهم، ما ثنوا أصلابهم، وآخرين ركوعاً، ما رفعوا أصلابهم، وآخرين سجوداً، ما رفعوا رؤوسهم، حتى ينفخ في الصور النفخة الآخرة، فيقولون جميعاً: سبحانك وبحمدك، ما عبدناك كما ينبغي لك أن تعبد..»(2)، فهذه حال بعضهم في العبادة الموصولة التي لا تنقطع.

والملائكة لا تعرف أمراض البشر القلبية، فلا حقد ولا حسد ولا ضغينة، يستغفرون لأهل الأرض وما بينهم وبينهم علاقة، بل حباً أن يرحمهم الله تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ) (الشورى: 5)، وهي حالة عظيمة يعمل الصيام على ترسيخها في نفوس الصائمين، بحب الخير المطلق للناس أجمعين.

ثم إن التخلق بأخلاق الملائكة تدريب على الانتقال إلى حال النفس المطمئنة، والتحول بها من علم اليقين إلى عين اليقين. 

الكتب السماوية هداية للصائمين

إن الكتب الإلهية هي الهادية إلى طريق الله تعالى، لا ضلال معها أبداً، وصف الله بعضها بأنها هدى ونور: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) (المائدة: 44)، وقال تعالى في الإنجيل: (وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) (المائدة: 46)، ثم صار القرآن وحده الحقيق بالاتباع على الإجمال والتفصيل، قال الله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (المائدة: 48)، فالإيمان بالكتب إجمالاً، والقرآن تفصيلاً، واجب محتم على الصائم.

إن الصيام حالة منع تام من مجاوزة حدود ما أنزل الله على رسله في كتابه، وهذا مقتضى تعظيمه لما أنزل الله، وعمله بما شرع، وفي حديثه صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»(3)، والزور ميل وانحراف يشمل سلوك المرء، وأي صوم يرجو صاحبه ثوابه مع ميله ومجاوزته حدود الله التي أنزلها في كتابه. 

رسل الله في نفوس الصائمين

الإيمان بالرسل هو الإيمان بالمثل العليا الكاملة، في العبادة والصبر والشجاعة والحلم والعفاف، وإيصال الخير للناس، فالصائم مطلوب منه أن يتخلق بأخلاق الرسل ما أمكن، وينتهج طرائقهم، فينظر إلى عفاف يوسف عليه السلام، وصبر أيوب عليه السلام على المرض بلا سبب، وهكذا سيرة الكليم حيث عمل بالأجرة عشر سنين ليصون نفسه عن الحرام، ثم في الصبر على الأذى من الأقربين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً) (الأحزاب: 69)، ثم اليقين بالله في أحلك الظروف.

ثم الاحتذاء بالمثل الكامل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هديه وشمائله، في سمته وهديه، في عبادته وذكره وجهاده، في شجاعته ومروءته وفطنته وطيب عشرته وتواضعه.

أما إيمانه باليوم الآخر فهو الدافع له حقاً لتحمل الحرمان من الطعام والشراب وما وراء ذلك، فالعمل للدار الآخرة هو غاية الخلق، حيث يجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بما فعل.

ثم الإيمان بالقضاء والقدر، الذي هو القيمة الآكد لتحمل المكاره، والتصرف حيال المقادير بالصبر، وإنما يتربى المرء على الصبر من خلال الترك والصبر على الحرمان، الذي يكون في الصيام.

الصوم وموصول الأجر 

الصوم تدريب ناجع على التحلي بمكارم الأخلاق، ككظم الغيظ، والرحمة واللين، والمراقبة، والصبر والعفة، فالصوم مدرسة إيمانية للعمل بمرضاة الله تعالى، فرمضان كله أجر؛ ليله ونهاره، وما الفطر بعد العشاء للفجر إلا رخصة وتخفيف من الله على عباده، وكانوا يصومون من العشاء حتى مغرب اليوم التالي، حتى خفف الله عنا، فجمع الله تعالى لنا بين محبوبين؛ الفطر للفجر، والأجر عليه.

ثم إن الصوم ضمير حي طول الوقت، ورقابته آكد الرقابات، فيجعل الصائم في عبادة إن لم تكن بالفعل، فبدوام المراقبة والإحسان.

 

 

 

 

 

_________________

(1) مدارج السالكين (2/ 73). 

(2) حلية الأولياء (5/ 368).

(3) أخرجه البخاري في صحيحه.


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة