19 فبراير 2025

|

النظام العالمي الجديد.. رؤية إسلامية

د. عطية عدلان

16 فبراير 2025

7055

هل سيبقى النظام العالميُّ على حاله هذا؟ وهل ستبقى الهيمنة الأمريكية جاثمة على صدور الخلائق؟ هذا ما تسعى إليه أمريكا جاهدة ومتجاوزة في جهادها وجلادها كلّ حدود المعقول واللامعقول، وهذا ما تحرص عليه الإدارة الأمريكية مهما تداولتها الأحزاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وإنْ اختلفت الأساليب، لكنْ من المؤكد أنّ التجديف ضدّ التيار الجارف عبث ومعاندة للسنن لا جدوى منها؛ فالكلّ يتحدث اليوم عن عالم تغْرُب فيه شمسُ الهيمنة الأمريكية، وتتعدد فيه الأقطاب، ولا يقف الأمر عند التنبؤات والتحليلات، وإنما يتجاوزه إلى التدافع واشتداد التنازع على مقدرات الأرض ومقررات الخلق، ومَنْ ألقى نظرة سريعة على سلوك الصين وروسيا وكثير من بلدان العالم أيقَنَ بالحقيقة.

على الرغم من خُبث التنين الصيني، ولؤم الدبّ الروسيّ، ودناءة وانحطاط المخروط الهندوسيّ، فإنّنا نستبشر بأمر آخر لا علاقة له بهويات القوى المتصارعة، وهو أنّ تَعَدُّد الأقطاب، وتجاذبها وتنافرها، ودورانها بين الكرّ والفرّ؛ يعطي هامشاً للمستضعفين ليجدوا موضعاً لأقدامهم على أرض طبيعتها الصراع الدائم، ولعلّ هذا بعض ما تتمخض عنه سُنة التدافع من آثار تقي الأرض عموم الفساد، قال تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) (البقرة: 251)، ولعل هذه السُّنة (التدافع) مقدمة لإمضاء سُنة أخرى قريبة منها، لكنّها خاصة بهذه الأمة، وهي سُنة «الدفع» قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) (الحج: 40)، وعلى هذا تكون كلمة «الناس» هنا من قبيل العام الذي أريد به الخصوص -بخلاف الآية الأولى- أي: «لولا دفعُ اللهِ الناسَ الكافرين بالناسِ المؤمنين».

عرش أمريكا اعتلاه مؤخراً من سيجرّها بسرعة النجم إذا هوى إلى الهاوية المحتومة!

وبمقتضى سُنّة التداول (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 62)، فإنّ تَمَحْوُرَ الوجودِ البشريّ بعد الحرب الباردة حول قطب واحد كان أمراً استثنائياً مؤقتاً؛ ما كان له أن يدوم ولا أن يطول، وقد أَلْمَحَ ابن خلدون إلى القاعدة المطّردة وفق هذه السُّنة، حيث قرر أنّ «الدول لها أعمار طبيعية كالأشخاص»، وذلك قبل أن يستطرد في بيان الأطوار التي تمرّ بها؛ لتنتهي إلى الطور الخامس، طور «الإسراف والتبذير»، وهو عين ما ينغمس فيه المجتمع الأمريكيّ الآن، حتى صار سلوكاً استهلاكياً يصعب، بحسب نيال فيرجسون، تغييره ولو على المدى البعيد، وإنّ الغرب ليس استثناء من الأمم التي جرى عليها القانون الذي لا يحابي ولا يجامل، إنّه كسائر الحضارات أو المدنيات التي وُلِدتْ ثم شبّت ثم أصابها الهرم وأكلتها الشيخوخة، وإنّ سُنة الله لا تتغير ولا تتبدل، والأيام دول: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140).

نهاية القطب الواحد

وقد تنبأ الكثيرون منذ مدّة طويلة بقرب انتهاء نظام القطب الواحد المهيمن، ففي البداية جاءت نظرة صمويل هنتنجتون في كتابه «صدام الحضارات» على نحو تأسيسيّ، ولكنّه قائم على دراسات إحصائية استقرائية، ذهب فيها إلى تتبع سير الأمم وعلاقة ذلك بهوياتها الثقافية؛ ليقول لنا: « الاستعمار الأوروبي انتهى، الهيمنة الأمريكية تنحسر، وذلك يتبعه تآكل في الحضارة الغربية، حيث تهب الأعراف العميقة الجذور واللغات والمعتقدات والمؤسسات الأصلية لتؤكد نفسها، القوة المتنامية للمجتمعات غير الغربية الناتجة عن التحديث تؤدي إلى إحياء الثقافات غير الغربية في أنحاء العالم».

وعلى أثر هنتجتون يأتي فريد زكريّا، الكاتب والمفكر الأمريكي الشهير، في كتابه الذائع الصيت «عالم ما بعد أمريكا»؛ ليفصح أكثر، فيقول: «لقد أشار وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية جيمس بيكر في عام 1991م إلى أنّ العالم كان يتجه نحو الدخول في نظام مركزيّ، تمر فيه كل الدول عبر الولايات المتحدة الأمريكية؛ من أجل الوصول إلى وجهتها المقصودة، ولكنْ ثمة وصف أفضل للقرن الحادي والعشرين، وهو أنه عالم ذو مسالك متعددة، ترسم خطط الرحلات فيه كل يوم.. إنّ العالم يتجه من الغضب إلى اللامبالاة، من العداء لأمريكا إلى ما بعد أمريكا».

أخطر ما تواجهه أمريكا الاستقطاب العنيف المرتكز على خلافات ثقافية عميقة

وعندما نحاول المقارنة بين قول توماس جفرسون، أحد الآباء المؤسسين بعد كتابته للدستور الأمريكي: «على أوروبا القديمة أن تتكئَ على أكتافنا، وتسيرَ في ركابنا بقدر ما تستطيع، مقيدةً بآسار الملوك والرهبان؛ أيّ ماردٍ جبّارٍ سَنَكُون!»، وقول أندري جروف، مؤسس شركة «إنتل»، مؤخراً: «تواجه أمريكا خطر السير على خطى أوروبا باتجاه الانهيار، وأسوأ ما في الأمر أن لا أحد يعلم بذلك، إنّهم جميعاً يعيشون حالة من الإنكار، يُرَبِّتُ بعضهم على ظهور بعض، بينما تتجه «التايتانيك» نحو جبل الجليد بأقصى سرعتها»، وكذلك ما أوردته «الإيكونوميست» عن نيال فيرجسون، في مقال له: «قد يكون الوقت قد حان لمواجهة حقيقة أنه نادراً ما تكون نهاية الإمبراطورية عملية غير مؤلمة». 

عندما نقارن بين الماضي والحاضر من التصريحات، لا نملك إلا التسليم للآية: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).

فإذا كانت الأحداث قد صدّقت هذه المقولات؛ فإنّ عرش أمريكا قد اعتلاه مؤخراً من سيجرّ أمريكا بسرعة النجم إذا هوى إلى الهاوية المحتومة، ولم تمض أسابيع على بدء ولايته الثانية حتى تعالت الصرخات في الصحف الكبرى، فهذا ماكس ستير يقول: «إن ترامب يدمر كل ما يقف في طريق ما يريد القيام به، يشمل ذلك أن أصبح الولاء هو المعيار الأساسيّ لاختيار ملازميه المباشرين، ويتضمن سحق الخدمة المدنية وتحويلها إلى أداة لأجندته الخاصة، بدلاً من كونها قوة من أجل الصالح العام وسيادة القانون».

لعلّ أخطر ما تواجهه أمريكا هو الاستقطاب العنيف المرتكز على خلافات ثقافية عميقة، إلى هذا البعد الخطير أشار أحد المحترفين لاستطلاع الرأي العام وليام ماك إنترف، في تصريح لـ«واشنطن بوست» قائلاً: «عندنا قوتان ضخمتان تصطدمان؛ واحدة ريفية مسيحية محافظة دينياً، والأخرى علمانية تعيش في نيو إنجلاند وعلى شاطئ المحيط الهادئ»، وقريب من هذا قول باتريك بوكنان: «إنّنا بَلَدَان وشَعْبَان؛ أمريكا قديمة تموت، وأمريكا جديدة تنال ما تستحق»، حتى فوكوياما الذي ظلّ في كتابه «نهاية التاريخ» يجدف ضد التيار عاد ليغرد داخل السرب ويقول: «فالمجتمع الأمريكي يسوده استقطاب حاد.. تَحَوَّلَ منذ ذلك الحين إلى صراع مرير حَوْل الهوية الثقافية».

نحن المسلمين قادرون على أن نخرج من النفق المظلم لنجدَ لنا موضع قدم إذا شئنا وسعينا

وهناك أسباب للانهيار لا تقلّ كفاءة عن الاستقطاب، ففي كتاب «الصنم.. صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية»: «الاستهلاك اعتماداً على الاقتراض، الإحجام عن الذهاب إلى جبهات القتال، النزعة لفقد الاهتمام بالمهمات؛ إذا كانت كل هذه السمات تستحضر صورة أمريكا في الذهن كمتمرد كسول مغرم بالجلوس وعدم مغادرة البيت، أو بتعبير أكثر فظاظة: مدمن إستراتيجي للجلوس ومشاهدة التلفزيون؛ فإنّ الصورة تستحق التفكير والتأمل.. ويبدو أنّ عبء الرجل الأبيض محمول على كرشه»!

كلّ ما مضى يجب أن يكون مقدمة للقول: إننا -نحن المسلمين- قادرون على أن نخرج من هذا النفق المظلم؛ لنجدَ لنا في هذا المزدحم موضع قدم، وذلك إذا شئنا، فإن سعينا إلى هذه الغاية؛ فإنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وإن أبينا -لا سمح الله- فلتنتظر أمتُنا دورة حضارية أخرى.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة