05 فبراير 2025

|

المفاضلة بين ورع الإمام أو قوته عند الجويني

كلثوم باسعيد

05 فبراير 2025

31

على مر التاريخ، لاحظنا أن تقديم أهل الإيمان بالله للحكم لم يكن هو الأصل، بل رأينا الحكام الذين زعموا أنهم آلهة، أو أنصاف آلهة، أو من نسل الآلهة، كالفراعنة بمصر.

وفي بني إسرائيل اجتمعت السلطة الدينية والزمنية في يد الأنبياء؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ»(1)؛ قال النووي: أَيْ: يَتَوَلَّوْنَ أُمُورهمْ كَمَا تَفْعَل الأُمَرَاء وَالْوُلاة بِالرَّعِيَّةِ(2).

وإمام الحرمين الجويني حدَّد شروطًا يلزم توافرها فيمن يتصدَّر لإمامة المسلمين، وكان الورع عنده شرطًا جوهريًّا لا بد من تحققه في إمام المسلمين؛ فقال: فأما الصفات المكتسبة المرعية في الإمامة: فالعلم، والورع(3).

وقد ربط عوام الناس بين الورع والضعف، واعتبروا أن رحمة الوَرِع بالناس وحدبه عليهم ورأفته بهم ضعفًا، ومدعاة لإسقاطه من نظرهم، والتعدِّي عليه.

لكنَّ القوي يخافه الناس ويرهبونه ويعظِّمونه رغم بطشه بهم، وقهره لهم، وتعدِّيه عليهم، حتى إن هناك بعض الأشعار والأمثال التي تكرِّس لهذه النظرة الغريبة، فقال أبو الطيب المتنبي:

إذا لم تُجزهم دار قومٍ مودَّةٌ         أجازَ القَنا والخوفُ خيرٌ من الودِّ

وقد نسوا أن الورع فيه التورع عن الدماء، والأعراض، والأموال، لكنهم قد خلطوا بين القوة وهي صفة محمودة، والتجبر والفتك وهي صفات مذمومة.

وسيدنا موسى عليه السلام، كان قويًّا فبقبضته قتل المصري خطأ، فلما عاد لنفس الأمر نبَّهه مصري آخر قائلاً له: (أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (القصص: 19).

فبالمسارعة في القتل والولوغ في الدماء يصبح الإنسان جبَّارًا فاتكًا مفسدًا في الأرض.

وعندما رغَّبت ابنة الرجل الصالح بمدين أباها في استئجار موسى عليه السلام كان ذلك لأنها رأت فيه صفتين عظيمتين فقالت: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (القصص: 26).

وموسى تربى في بيت سياسة وقوة وحكم؛ إذ تربى في قصر فرعون، ولعله تعلم وأُهِّل التأهيل السياسي والعلمي والبدني ليكون قائدًا عظيمًا.

وكذلك قُدِّم طالوت على بني إسرائيل لقيادتهم؛ لامتيازه بالقوة والعلم؛ (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (البقرة: 247)؛ فالعلم والرأي والقوة والحكمة من قواعد الحكم، والقوة واسعة متنوعة؛ وليست فقط في الجسم، بل هناك قوة الرأي والشكيمة والنَّفس.. إلخ.

لكنه في بعض الحالات التي قد تنزل بالأمة فإنها قد لا تجد القوي الورِع الذي يقودها في الحروب، وتتترس به في الأزمات، فحينئذ تلجأ للقوي الفاسق -حسب رأي الجويني- وقت انعدام التقي الورِع القوي؛ دفعًا للضرر الواقع على الأمة.

وقد صوَّر هذه الحالة بقوله: «لو فُرض إلمام مُهم يتعين مبادرته في حكم الدين، قبل أن يطأ الكفار طرفًا من بلاد الإسلام، ولم نجد بُدًّا من جر عسكر، وصادفنا فاسقًا نقلِّده الإمارة، وعسُر انجرار العسكر دون مرموق مطاع، ولم نتمكَّن من تقي ديِّن، وإن بذلنا كنه المستطاع، فقد نضطر إذا استفزتنا داهية تتعين المسارعة إلى دفعها إلى تقليد الفاسق جر العسكر»(4)؛ والحديث عن القائد الفاسق هنا يأتي في سياق مفهوم المخالفة؛ إذ إن سياق الحديث عن القائد الورع.

وهذا القائد الفاسق قد يكون أسير شهوته، لكنه متصوِّن أمام الناس، ويُظهر احترام الدين والشريعة والحدود، ومع ذلك فهو ذو كفاية وعنده مؤهلات القيادة مع انعدم وجود غيره، فعندئذ يرى الجويني أنه لا مانع من تقديمه فقال: «ولو فُرض فاسق يشرب الخمر أو غيره من الموبقات، وكنا نراه حريصًا -مع ما يخامره من الزلات، وضروب المخالفات- على الذب عن حوزة الإسلام، مشمرًا في الدين؛ لانتصاب أسباب الصلاح العام العائد إلى الإسلام، وكان ذا كفاية، ولم نجد غيره، فالظاهر عندي نصبه مع القيام بتقويم أَوَده(5) على أقصى الإمكان»(6).

ومراقبة الأمة لقادتها أمر في غاية الأهمية عند الجويني؛ وذلك ظاهر في قوله: «الظاهر عندي نصبه مع القيام بتقويم أَوَده»؛ فهي لا تقبل الاعوجاج، وتعمل على تثقيفه وتقويمه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، والأمر الاضطراري لا يصبح هو القاعدة.

ثم إن الصورتين المذكورتين أعلاه ختمهما الجويني بالعلة الدافعة لاختياره الأدنى دون الأعلى؛ فتلك ضرورة، ومصالح الأمة لا يجب تعطيلها، فقال: «إن تعطيل الممالك عن راع يرعاها، ووال يتولاها، عظيم الأثر والموقع في انحلال الأمور، وتعطيل الثغور، فإن كنا نتوسم ممن ننصبه الانتداب والانتصاب للإمرة لما فيه من الكفاية والشهامة، وكان مستقلاً بنفض الممالك والمسالك عن ذوي العرامة(7)، فنصبه أقرب إلى استصلاح الخلق من تركهم مهملين، ولا يعدل ما نتوقعه من الشر من فساده، وما ضري به(8) من شرته ما يعن من خبال الخلق، إذا عدموا بطاشًا يسوسهم، ويمنع الثوار الناجمين منهم: فإذا نصب من وصفناه في الصورة التي ذكرناها في حكم الضرورة»(9).

فأن تبحث الأمة عن المثال والكمال فأمر لا مرية فيه، لكن الواقع يفرض كثيرًا عليها المفاضلة بين حسَن وأحسن، وكذلك أحيانًا بين سيئ وأسوأ، وهذا ما عبَّر عنه السياسي الداهية عمرو بن العاص لما قال: «ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين»(10).

 

 

 

 

 

______________________

(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، ح(3455)، ومسلم في الإمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، ح(1842) من حديث أبي هريرة.

(2) شرح النووي (12/ 536).

(3) الغياثي، ص84.

(4) المرجع السابق، ص311-312.

(5) أي: العوج، انظر: الفائق في غريب الحديث والأثر للزمخشري (1/ 65).

(6) الغياثي، ص312.

(7) الشراسة والخبث والأذى والقوة والشدة والشر، انظر: الصحاح، مادة «عرم»، ولسان العرب، مادة «عرم».

(8) تعوَّده وأَلِفه وما عاد يصبر على فراقه، انظر: لسان العرب، مادة «ضرا».

(9) الغياثي، ص312.

(10) الإشراف في منازل الأشراف، لابن أبي الدنيا، ص264.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة