الواقع المعزز والضوابط الدينية.. هل يتصادمان؟

من الملاحظ وجود
علاقة قوية تجمع بين الدين والتكنولوجيا خاصة بعد التطور السريع الذي شهده العصر
الحديث، فمن جهة فتحت التكنولوجيا آفاقًا جديدة ومبتكرة لنشر المعرفة الدينية،
وتعزيز التواصل بين الشعوب والدول الإسلامية، بالإضافة إلى تعزيز تعاليم الدين عبر
مختلف الوسائل الرقمية، ومن جهة أخرى؛ برزت العديد من التساؤلات حول مدى تأثيرها
على المعايير والضوابط الدينية، والالتزامات الأخلاقية، والقيم الروحية.
وتعد تقنية
الواقع المعزز إحدى التقنيات الرقمية والتكنولوجية الحديثة التي غيرت طريقة تفاعل
الناس مع الأشياء، والأشخاص، والدول، ولذا؛ برز مع هذه التقنية العديد من
التساؤلات حول كيفية تحقيق التوازن بين الحداثة الرقمية، والحفاظ على القيم
الدينية، خاصة وأن تقنية الواقع المعزز يمكن أن تقدم التعليم الديني بأساليب أكثر
تفاعلية من خلال تجارب بصرية غامرة وفعالة، إلا أن التساؤل ما زال قائمًا حول مدى
توافق الواقع المعزز مع المبادئ والقيم الدينية؟ وهل يمكن استخدام هذه التقنية
لتعزيز الفهم الديني دون أن تخل بالضوابط الأخلاقية والشرعية؟
في هذا المقال
سيتم تسليط الضوء على تقنية الواقع المعزز، واستخداماتها المختلفة، ونظرة الدين
إلى التكنولوجيا الحديثة ودورها في المجتمع، بالإضافة إلى توضيح الجوانب الفقهية
والأخلاقية لهذه التقنية.
1- المقصود
بالواقع المعزز:
يعرف الواقع
المعزز (Augmented
Reality - AR) بأنه تقنية
تقوم بدمج العناصر الرقمية أو الافتراضية (الصور أو المعلومات) مع البيئة الواقعية
أو الحقيقية للمستخدم، وذلك تزامنًا مع الوقت الفعلي، فمن خلال هذه التقنية يمكن
تعزيز البيئة الحقيقية بعناصر افتراضية، وبالتالي تظهر بيئة جديدة معززة بالكامل،
ويتم ذلك من خلال الأجهزة الذكية (الهاتف المحمول، الجهاز اللوحي)، أو النظارات
المخصصة للواقع المعزز.
من هنا يمكن
القول: إن الواقع المعزز يعمل على تحسين التجربة البصرية من خلال إضافة كائنات، أو
عناصر، أو معلومات افتراضية، تتفاعل مع العالم الواقعي أو الحقيقي للمستخدم، مما
يتيح للمستخدمين تجربة غامرة وأكثر تفاعلية، ونظرًا لأهمية هذه التقنية؛ تم
توظيفها في العديد من المجالات مثل: الدين، والتعليم، والتسوق، والطب، والألعاب،
والهندسة.. إلخ.
2- نظرة
الدين إلى التكنولوجيا الحديثة ودورها في المجتمع:
تتفاوت نظرة
الدين إلى التكنولوجيا بشكل عام، وذلك حسب استخدامها وتأثيرها على الإنسان
والمجتمع، فالإسلام ينظر إلى التكنولوجيا كأداة محايدة يمكن استخدامها للنفع أو
الضرر، ويرجع ذلك إلى نية المستخدم، وهدفه من الاستخدام، من هنا يمكن القول: إن
التكنولوجيا سلاح ذو حدين، يمكن استخدامه لنصرة الإسلام، ويمكن استخدامه لمحاربته،
وإفساد الأخلاق، والقيم الدينية.
وفيما يتعلق
بدور التكنولوجيا في المجتمع، فإن الإسلام ينظر إليها على أنها وسيلة لنشر المعرفة
والتعاليم الدينية، وذلك من خلال الكتب الإلكترونية، والمنصات الرقمية، مواقع
التواصل الاجتماعي، والتفاعل مع العلماء، كما أنها تسهم في علاج الأمراض وإنقاذ
النفس البشرية التي أمر الله بإنقاذها.
وتسهل
التكنولوجيا أيضًا الحياة اليومية، وتجعل الأمور تتم ببساطة ويسر بعيدًا عن
التعقيد، فنحن مأمورون بالتوازن بين الدين والتكنولوجيا والاستفادة منها في إطار
أخلاقي، ديني، إسلامي، يخدم الأمة الإسلامية، ولا يترتب عليه ضرر أو إفساد، كما
أمرنا الله تعالى في كتابه: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلاَحِهَا) (الأعراف: 56)، ووعدنا بأنه تعالى لا يضيع أجر من أحسن العمل، وسخر كل
شيء في نفع الإنسان، فقال في كتابه: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف: 30).
3- استخدامات
الواقع المعزز في الدين:
يمكن أن يؤدي
الواقع المعزز (AR) دورًا مهمًا في تسهيل التعاليم والمعرفة
الدينية بطريقة مبتكرة وفعالة، فمن خلال هذه التقنية يمكن تقديم دروس تفاعلية عن
التاريخ الإسلامي، وعرض المواقع الدينية المقدسة لدى المسلمين، خاصة تلك التي يصعب
الوصول إليها، ويمكن أن يساعد الواقع المعزز الأطفال والطلاب في تعلم التفسير
والحديث وآيات الذكر الحكيم من خلال تجربة بصرية غامرة تسهل الفهيم وتعزز
الاستيعاب، كما يمكن أن توفر إرشادات افتراضية للحجاج والمعتمرين من خلال تطبيقات
الواقع المعزز التي تمكنهم من معرفة المناسك خطوة بخطوة.
ويمكن استخدام
تقنية الواقع المعزز لزيارة المواقع الدينة بشكل افتراضي للأشخاص العاجزين عن
السفر، حيث يمكن زيارة المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى بشكل
افتراضي، وتدعيم هذه الأماكن بالمعلومات التاريخية والثقافية، كما يمكن استخدام
هذه التقنية أثناء إلقاء الدروس الدينية لعرض صور ثلاثية الأبعاد ومقاطع فيديو
تفاعلية تدعم موضوع اللقاء، وهذا في حد ذاته يجعل التجربة أكثر تأثيرًا ووضوحًا.
خلاصة القول: إن
تقنية الواقع المعزز واحدة من أقوى الوسائل التكنولوجية التي يمكن من خلالها نشر
المعرفة، وتعزيز الوعي الديني بطريقة جذابة وتفاعلية، بما يمكن المستخدمين من
تذكرها، والاستفادة منها بأقصى قدر ممكن، إلا أنه من الضروري أن يتم ذلك في إطار
أخلاقي، مع مراعاة كافة التعاليم والقيم الإسلامية، كما أمرنا الله تعالى في
كتابه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90).
4- الجوانب
الفقهية والأخلاقية للواقع المعزز:
يدمج الواقع
المعزز بين العالم الافتراضي والبيئة الحقيقية؛ ما أدى إلى إثارة العديد من
التساؤلات الفقهية والأخلاقية حول مدة مشروعية استخدام هذه التقنية، وتأثيرها على
القيم المجتمعية، ويمكن توضيح أهم هذه الجوانب فيما يلي:
- استخدام
الواقع المعزز في التعاليم الدينية أمر جائز شرعًا إذا كان يساعد على فهم آيات
القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والفقه، والسيرة وما إلى ذلك، أما إذا أدى إلى
نشر معلومات خاطئة، أو تحريف النصوص الدينية فإنه غير جائز شرعًا.
- استخدام
الواقع المعزز في الألعاب جائز شرعًا إذا كانت هذه الألعاب مفيدة، أو تعليمية،
وخالية من العنف، أو المحتوى المحرم، أما إذا كانت الألعاب تحتوي على رموز دينية
بطريقة مسيئة أو غير لائقة، أو تشجع على العنف أو الانحلال الأخلاق، أو تعمل على
إضاعة الوقت، فإنها محرمة شرعًا.
- يمكن استخدام
الواقع المعزز كوسيلة تعليمية لتوضيح الأحكام الدينية كالصلاة والطاهرة للمبتدئين،
أو صغار السن، لكن لا يجوز استخدام هذه التقنية في أداء العبادات كالطواف
الافتراضي حول الكعبة وما إلى ذلك.
- استخدام
الواقع المعزز للتجسس على الناس، وانتهاك خصوصيتهم، وتصويرهم دون إذن، أو التطفل
على منازلهم، غير جائز شرعًا.
- يجب استخدام
تقنية الواقع المعزز بما يتوافق مع القيم الإسلامية، والضوابط الأخلاقية، ومراعاة
ألا يؤدي استخدام هذه التقنية إلى نشر الفساد، أو ترويج الأفكار غير الأخلاقية،
وإهمال الواجبات العائلية.
من هنا يتبين أن
الإسلام لا يعادي التكنولوجيا الحديثة، ولا يصطدم معها، بل يسخرها في النفع العام
للمجتمعات الإسلامية، ويبيح ما توافق منها مع تعاليم الدين، وأخلاقياته، ويحرم ما
تناقض منها مع الدين، والمعايير الإسلامية، والواقع المعزز شأنه في الشرع شأن
التكنولوجيا؛ جائز شرعًا إذا استعمل في الخير كالتعليم، وتسهيل طرق الحياة، وما
إلى ذلك، لكنه يصبح محرم شرعًا إذا ما أدى إلى مخالفات غير أخلاقية، أو اصطدم مع
أمور شرعية مثل التعدي على الخصوصية، أو الترويج للمحتويات غير الأخلاقية، أو تسبب
في إضاعة الوقت، وما إلى ذلك،
ونختم بقول
النبي صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله»، وقال صلى الله عليه
وسلم: «سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا
يَنْفَعُ».