المرونة الذاتية.. كيف تواجه أزماتك؟
![](https://mugtama.com/storage/uploads/8Pwc7BupqPOc7MiuCMrTjDRAyBQ861NVRKEzpOVn.jpg)
تمثل المرونة الذاتية، وهي ذلك البعد النفسي الذي يساعد الإنسان على التعامل مع الأزمات بحكمةٍ وصبر، سلاحًا لا غنى عنه في زمننا المعاصر، الذي باتت تتقاطع فيه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية مع مشاعر القلق والتوتر.
وقد أضاء الإسلام، بتوجيهاته السامية، الطريق إلى هذه المرونة من خلال تعاليمه التي تربي على الصبر وحسن التدبير؛ حيث قال الله، عز وجل، في كتابه الكريم: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح: 5-6)، وهاتان الآيتان لا تقتصران على مجرد تأكيد أن الضيق يتبعه الفرج، بل هما دعوة للمؤمنين لاستثمار التحديات كفرص للنمو الروحي والفكري، وفتح أبواب الفرج عبر سبل الصبر واليقين.
وفي السطور التالية، سنغوص في كيفية تعزيز مرونتنا الذاتية لمواجهة الأزمات، والتطرق إلى الأدوات النفسية والعملية التي يمكن أن تسهم في بناء هذه المرونة، وكذلك استكشاف دور التكنولوجيا في دعم هذه المهارات الحيوية، كما سنسلط الضوء أيضًا على دور المجتمع في خلق بيئة داعمة تساهم في تعزيز قدرة الأفراد على التكيف والصمود
أدوات نفسية وعملية
يحتاج المسلم إلى مرتكزات نفسية وعملية تعينه على الثبات والتكيف بوعي وحكمة في مواجهة الأزمات، وأول هذه المرتكزات:
الصبر والتوكل
فالصبر من أعظم الفضائل التي دعا إليها الإسلام، حيث يقول النبي ﷺ: "عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ" (رواه مسلم).
والصبر أيضًا ليس مجرد تحمل للشدائد، بل هو قوة نفسية تمنح الإنسان القدرة على الثبات، والتكيف مع المتغيرات، ورؤية الابتلاءات كوسيلة للارتقاء الروحي والفكري، كما أن التوكل على الله يعزز من الإحساس بالطمأنينة واليقين بأن الأمور بيد الله، فيخفف من أثر الأزمات والضغوط الحياتية على المسلم.
حسن الظن بالله والتفكير الإيجابي
ويتمثل المرتكز الثاني أو الأداة الثانية في حسن الظن بالله والتفكير الإيجابي، فالإيمان بأن الله لا يقدر لعباده إلا الخير، حتى في أصعب الظروف، يولد طاقة إيجابية تدفع الإنسان للنظر إلى التحديات بعين التفاؤل؛ وهو ما أثبتته الدراسات النفسية الحديثة أيضًا، إذ أوردت أن الأشخاص الذين يمتلكون نظرة متفائلة للحياة يكونون أكثر قدرة على التكيف مع الأزمات، وأقل عرضة للاضطرابات النفسية؛ ولذا، فإن تبني منهج حسن الظن بالله والتفكير الإيجابي يساعد على تعزيز المرونة العاطفية والعقلية، ويجعل الإنسان أكثر قدرة على مواجهة المحن بثقة وثبات
إدارة الوقت والتخطيط السليم
أما المرتكز الثالث فهو إدارة الوقت والتخطيط السليم، ففي فقه الأولويات، يتعلم المسلم كيف يوازن بين المهام المختلفة، ويركز على الأهم قبل المهم، وهو ما يعزز قدرته على التعامل مع الأزمات بكفاءة، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "إضاعة الوقت أشد من الموت، لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها"
ومن هنا، فإن إدارة الوقت بشكل فاعل، ووضع خطط واضحة، يساعد الإنسان على تجاوز المحن دون أن يتأثر عطاؤه أو إنتاجيته، والتخطيط السليم لا يشمل فقط ترتيب المهام اليومية، بل يمتد إلى وضع خطط بديلة لمواجهة التحديات غير المتوقعة، مما يضمن استمرارية الإنجاز والنجاح رغم الأزمات.
استثمار التكنولوجيا
أصبح التعلم الذاتي والتطور المستمر في عصر المعرفة الرقمية، من أهم وسائل تعزيز المرونة الذاتية للمسلم، حيث توفر المنصات التعليمية الحديثة - وهي كثيرة ـ فرصًا لا محدودة لاكتساب المهارات وتطوير القدرات الفكرية، مما يمكن الأفراد من التكيف مع المتغيرات بثقة وثبات.
وانصب تركيز العديد من الدراسات الأكاديمية على هذا المرتكز الحيوي، وجميعها أكدت أن من يستثمرون في التعلم المستمر يمتلكون قدرة أكبر على مواجهة الأزمات، إذ يمنحهم التنوع المعرفي والاستعداد المسبق مرونة أوسع في التعامل مع التحديات.
وفي ظل التطور السريع للإعلام الرقمي، بات التوجيه والإرشاد في متناول الجميع، حيث تقدم المنصات الإسلامية محتوى غنيًا يعزز الوعي الديني والنفسي، ويوجه الأفراد إلى كيفية التعامل مع الأزمات برؤية متوازنة مستمدة من القيم الإيمانية.
وفي هذا المجال تعد مجلة المجتمع منبرًا فكريًا وإعلاميًا رائدًا، فهي لا شك تسهم في بناء شخصية المسلمين وتعزيز وعيهم بالقضايا المعاصرة، وتزويدهم بالأدوات الفكرية والعملية التي تساعدهم على تجاوز المحن بإيمان راسخ ونظرة إيجابية نحو المستقبل، وقد أثبتت بما تقدمه هي ونظيراتها من الوسائل الإعلامية الهادفة أن الإعلام ليس مجرد ناقل للأحداث، بل يعد شريكًا أساسيًا في تشكيل وعي أمتنا الإسلامية.
ثقافة الصمود
ويشكل التكافل الاجتماعي حجر الأساس في بناء مجتمع قادر على مواجهة الأزمات، حيث يغرس في الأفراد روح التعاون والتراحم، ويعزز مناعتهم النفسية والاجتماعية؛ وقد أكد النبي ﷺ هذا المعنى حين قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (رواه مسلم)، فحين يتكاتف أفراد المجتمع، ويشعر كل فرد بمسؤوليته تجاه الآخرين، يصبح التغلب على المحن أكثر يسرًا، حيث يجد كل محتاج يدًا تمتد لمساعدته، وكل متعثر صوتًا يشد من أزره.
ولا يمكن للمجتمعات أن تنمو وتزدهر دون أن تعزز في أفرادها ثقافة الصمود والتكيف مع المتغيرات، وهو ما يتحقق من خلال نشر الوعي، وتقديم برامج تدريبية وورش عمل تساعد على تنمية مهارات المرونة النفسية والاجتماعية؛ وقد أثبتت تجارب عالمية، مثل برنامج بناء المرونة المجتمعية الذي أطلقته اليونيسكو، نجاحها في تمكين الأفراد من مواجهة الأزمات، حيث ركزت على تطوير استراتيجيات التأقلم والتخطيط المسبق، باعتباره لا يجعل الأفراد فقط أكثر قدرة على الصمود والتكيف؛ بل قادرين على تحويل المحن إلى فرص للنمو.
وفي هذا السياق، يجب على المفكرين والقائمين على شؤون الدعوة في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية أن يسلطوا الضوء على المفاهيم الإسلامية المرتبطة بالصبر والتوكل والتخطيط والتفاؤل؛ وأن تؤدي المؤسسات المتخصصة في الإرشاد النفسي جهودًا في هذا المجال عبر المزج بين القيم الإيمانية والاستشارات النفسية؛ بما يساعد على بناء قوة داخلية تدفع الأفراد إلى مواجهة التحديات بروح مطمئنة ونفسٍ صامدة.
باختصار، من خلال الصبر والتوكل والتخطيط والتفاؤل، يتخطى المسلم الأزمات ويرتقي فوقها، ليخرج منها أقوى وأكثر صلابة؛ وإذا ما أجاد استثمار التكنولوجيا، فإن بإمكانه تعزيز مهاراته الذاتية وتطوير قدراته، وبينما يعتمد على إرادته، يبقى دور المجتمع أساسيًا في توفير الدعم والتوجيه، ليتمكن من مواجهة تحديات الحياة بروح إيجابية وثقة.