13 فبراير 2025

|

من وسائل الاستعداد لرمضان.. التوبة

 

بالنظر في مقاصد الدين الإسلامي لوجدناها تتمحور حول عملية إصلاح الإنسان ليصير فردا نافعا لنفسه أولا، ثم لمجتمعه ثانيا، ووجدنا أن الشريعة تسعى لإصلاح ما بين العبد وبين ربه، وما بين العبد وبين نفسه، وما بين العبد وبين الناس، فإصلاح النفس وتطهيرها من أدرانها وإعدادها للقاء الله في كل وقت هو الهدف الأسمى للشريعة الإسلامية، والمسلم هو إنسان غير معصوم من الوقوع في الخطأ، ولم يخلق الله عز وجل البشر ليكونوا ملائكة على الأرض بغير معاص أو ذنوب، وإنما الإسلام دين منطقي واقعي يعترف بالضعف الإنساني والرغبات الإنسانية والصراع الإنساني بين الخير والشر، وهذا هو غاية التكليف، وهو أن يقوم كل إنسان بالاختيار الحر في الذهاب لرب العالمين وطاعته، فكل بني آدم خطاء، لكن التكليف الرباني هو في العودة الحرة لرب العالمين كإنسان حر مكلف، وحين يقع الإنسان في خطأ ما، أو معصية تغضب رب العالمين، فأمامه باب التوبة الذي لا يغلق إلا أن تبلغ الروح الحلقوم، فالخطأ ليس نهاية المطاف، والفرص في الرجوع إلى الله عز وجل مفتوحة طالما بقي الإنسان على قيد الحياة، وكافة الذنوب يغفرها الرحمن إلا الشرك به سبحانه، وعلى كل إنسان ألا يسوف في توبته وأوبته سريعا، لأن الموت يأتي عنوة وبغير مقدمات، وفي خضم الاستعداد لاستقبال شهر رمضان المبارك، نقدم تلك الكلمات عن التوبة لنستقبله بقلب مطهر

حث القرآن والسنة على السرعة في الرجوع والتوبة

التوبة هي المنقذ المتجدد للإنسان باعتباره مجبول على الخطأ، حتى لو كان ذلك الخطأ تقصيرا في حق الله دون فعل ما يغضبه سبحانه وتعالى، ويذخر كتاب الله تعالى بالحديث عن التوبة، وتذكير الإنسان بها، فيقول تعالى في حب التوابين: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ" (البقرة: 222)، ويقول تعالى في تحديد شرط من شروط التوبة: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" (النساء: 17، 18)، والله عز وجل يريد لعباده التوبة والسعادة فيقول سبحانه: "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا" (النساء: 27)، والغاية من إرسال الرسل هو توبة الله عن عباده: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا" (النساء: 64)، وأصحاب التوبة لهم أجر عظيم: " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" (النساء: 146)، وفي معرض التوبة عمن حضروا جيش العسرة، وعلى الثلاثة الذين خلفوا ثم اعترفوا بذنبهم وتابوا توبة صادقة فألحقهم الله عز وجل في توبته بمن حضر غزوة تبوك من النبي صلى الله عليه وسلم يقول رب الله في توبته عنهم، وأن توبة الله على العبد هي غاية المؤمن: "لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (التوبة: 117، 118)، فلننظر كيف ساوى الله عز وجل التائب، بمن فعل الصواب لنعرف قيمة التوبة 

ولم يقل الحديث النبوي اهتماما بالتوبة عن كتاب الله، فكما تعددت آيات القرآن بالحديث عن التوبة، كذلك تعددت الأحاديث النبوية، فعن عبدالله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيُّها الناسُ تُوبُوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة) (رواه مسلم)، فالتوبة لا تستلزم ذنبا يدفعك لها، وإنما الاستغفار والتوبة يجب أن يكونا خلقا لازما للمسلم، لأنه لن يستطيع أن يحيط  بنعم الله ليشكرها، ولا لعبادته فيؤديها، فهو في حالة تقصير على الدوام، وعليه أن يلزم التوبة الدائمة كي يكون في حضور مع الله في كل وقت، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيدِهِ، لو لم تُذنِبُوا لذَهَبَ اللهُ بكم، ولَجَاءَ بقُومٍ يُذنِبون فيستغفِرون اللهَ، فيغْفِر لهم) ( رواه مسلم)، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربِّه عز وجل قال: (أذْنَبَ عبْدٌ ذَنْبًا، فقال: اللهم اغْفِرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذْنَبَ عَبْدي ذَنْبًا، فعلِمَ أنَّ له ربًّا يغفِر الذَّنْبَ، ويأخُذ بالذَّنْب، ثم عاد فأذْنَبَ، فقال: أي رب، اغْفِرْ لي ذَنْبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذْنَبَ ذَنْبًا، فعلِمَ أنَّ له ربًّا يغفِرُ الذَّنْبَ، ويأخُذُ بالذَّنْب، ثم عاد فأذْنَبَ، فقال: أي رب، اغْفِرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذْنَبَ عبدي ذَنْبًا، فعَلِمَ أنَّ له ربًّا يغْفِرُ الذَّنْبَ، ويأخُذ بالذَّنْب، اعمَلْ ما شئِتَ؛ فقد غفَرْتُ لَكَ) (رواه البخاري ومسلم) 

ما هي التوبة 

التوبة لغة: الرُّجُوعُ من الذَّنْبِ. وفي الحديث، (النَّدَمُ تَوْبةٌ) (أخرجه ابن ماجه)، (والتَّوْبُ جمع تَوْبةٍ مثل عَزْمةٍ وعَزْمٍ، عومة وعوم)[1]. (وتابَ إِلى اللّهِ يَتُوبُ تَوْباً وتَوْبةً ومَتاباً أي أَنابَ ورَجَعَ عن المَعْصيةِ إِلى الطاعةِ، وتابَ اللّهُ عليه وفَّقَه لَها أي للتوبة)[2]، وقد عَرَّفَ الجرجاني التوبة بقوله: (هي الرجوعُ إلى اللهِ بحل عقدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بكلِّ حقوق الرب)[3]، ويقول الراغب: (التوبةُ تركُ الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغُ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذرُ: لم أفعل، أو يقول: فعلتُ لأجلِ كذا، أو: فعلتُ وأسأتُ وقد أقلعتُ، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة)[4]، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (التوبةُ هي جماع الرجوع من السيئات إلى الحسنات)[5]

ووردت كلمة التوبة في كتاب الله عز وجل على ألسنة الأنبياء في مواضع كثيرة، فعلى لسان آدم عليه السلام يقول تعالى: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"  (الأعرَاف: 23)، وورد عن يونس عليه السلام بقوله: " وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ " (الأنبيَاء: 87).

وجاء عن العز بن عبدالسلام رحمه الله: "الاعتراف بالذنوب استكانة لعلام الغيوب، موجبة لعطفه ولطفه، بغفر الذنوب، وستر العيوب"

قال ابن القيم رحمه الله: "التوبة هي رجوع العبد إلى الله ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين"

شروط قبول التوبة

1 ـــ الإخلاص، وهي أن يقصد العبد بتوبته وجه الله تعالى خالصا من دونه، وهي شرط قبول أي عمل، والله عز وجل أغنى الأغنياء عن الشرك، فأمر قبول التوبة لا يتعلق بحجم الذنب، وإنما يتعلق بصدق الرجوع إلى الله عز وجل وهو القائل": قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُون" (الزمر 54)َ

2 ـــ الإقلاع عن الذنب، فمن سوء الأدب مع الله أن يأتي الذنب، ويتوب وهو ما زال يمارسه، بل عليه أن يستجمع إرادته ويقلع فورا، وأن يبتعد عن المكان الذي مارسه فيه، أو الصحبة التي دفعته لفعله

3 ـــ الندم على المعصية، فيستشعر عظمة الله إلى جانب ذنبه مهما كان صغيرا 

4 ــ العزم على عدم العودة إليه، فليس معقودا أن يعزم العودة إذا تيسرت أسباب المعصية وهو يعلن التوبة، فالله عز وجل يعلم الظاهر والباطن 

5 ـــ إرجاع المظالم إلى أهلها، فالذنب في حق الله يلزمه التوبة، والذنب في حق العباد يلزمه رد المظالم كما ثبت في الصحيح عن الرسول -عليه السلام- قوله: (مَن كَانَتْ له مَظْلَمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه). فما أعظمها من أيام وليال مباركة، وما أعظم التوبة بها، فهنيئا لمن يبادر ويستعد.

 

 


 

[1] الأخفش، معاني القرآن، المحقق: الدكتور فائز فارس. دار البشير و دار الأمل، (1401 هـ /1981 م) ، (2/ 459)

[2] لسان العرب 1/233

[3] التعريفات للجرجاني

[4] المفردات للراغبا لأصفهاني ص 169

[5] الاستقامة لابن تيمية 1/463


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة