حين يرحل المتغطرس ويبقى التراب شاهداً

كاتب المدونة: محمد تهامي
هكذا، في تقاطع الكلمات، تبرز المفارقة التي تصنع التاريخ وتعيد تشكيل الوعي، رجل ظن أن قوته ستخلد اسمه، فإذا به يتلاشى في زحمة النسيان، فيما تبقى الأرض شاهدة على من صمدوا، وعلى من كتبوا الحقيقة بدمائهم لا بأوامرهم التنفيذية، هذه ليست قصة فرد أو لحظة سياسية عابرة، بل مشهد متكرر عبر التاريخ، حيث تواجه إرادة الهيمنة منطق الأرض، وحيث يرحل الطغاة بينما يبقى من دافع عن حقه، متجذرًا في أرضه كأنها امتداد لجسده وروحه.
التاريخ مليء بحكام ظنوا أن القرارات التي يوقعونها ستغير مجرى الأشياء، لكنهم نسوا أن الأرض ليست أوراقًا تُباع وتُشترى، بل ذاكرة تعيش في قلوب أصحابها، منذ «وعد بلفور»، الذي منح من لا يملك لمن لا يستحق، لم تتوقف آلة التزييف.
في كل مرة، كانت هناك قوى تعتقد أنها قادرة على فرض واقع جديد عبر قرارات سياسية أو صفقات تسوية، كما فعل ترمب في «صفقة القرن»، حين قرر أن يعيد تشكيل الخارطة الفلسطينية بناءً على منطق القوة لا منطق العدالة، لكن، كما قال إدوارد سعيد: «لا أحد يستطيع كتابة التاريخ نيابة عن الضحايا»؛ لأن هؤلاء لا يختفون، بل يصبحون جزءًا من ضمير العالم، تمامًا كما أصبحت صورة الطفل الفلسطيني أمام دبابات الاحتلال رمزًا يختصر معركة طويلة بين الوعدين؛ وعد البشر، ووعد السماء.
حين ننظر إلى غزة، نرى نموذجًا متجددًا لهذه الحقيقة، يظن البعض أن بإمكانهم إزالة شعبٍ بالقصف، أو تغيير معادلات الجغرافيا بالقوة، متجاهلين أن الأرض لا تُفرغ بسهولة، وأن الشعب حين يتيقن أن بقاءه مقاومة، فإنه يتحول إلى صخرة يستحيل تحطيمها، هذه ليست مجرد كلمات حماسية، بل دروس من التاريخ، فقد قيل للجزائريين ذات يوم: إنهم سيبقون فرنسيين إلى الأبد، وإن لغة المحتل ستطغى، وإن الثورة مجرد حلم عابر، لكن فرنسا رحلت بعد 132 عامًا، وبقيت الجزائر.
إن صراع القوى الاستعمارية مع الشعوب المستضعفة ليس مجرد صراع عسكري، بل هو معركة بين من يملك الأرض ومن يحاول احتلالها، بين من يتكئ على القوة ومن يتكئ على الحق، ولعل أحد أعظم الدروس التي تقدمها القضية الفلسطينية للعالم هو أن الحقوق لا تموت بمرور الزمن، بل تزداد تجذرًا، هذا ما فهمه نعوم تشومسكي حين تحدث عن ازدواجية المعايير في التعامل مع القضية الفلسطينية، مشيرًا إلى أن ما يُرفض في أي مكان آخر في العالم يُقبل حين يتعلق بفلسطين، لأن القوى العظمى قررت أن الحقيقة هنا يمكن أن تُطمس، لكن الشعوب تثبت في كل مرة أن الذاكرة أقوى من الإعلام وأبقى من الدعاية السياسية.
على الصعيد الدولي، لم يكن ترمب سوى امتدادٍ لسلسلة طويلة من الزعماء الذين ظنوا أن بإمكانهم إعادة رسم الخارطة حسب مصالحهم، لكنه، مثل من سبقوه، لم يدرك أن ما كُتب بدماء الناس لا يُمحى بقرارات رئاسية، لقد ألغى اتفاقيات، نقل سفارات، وعقد تحالفات، لكنه لم ينجح في إخماد روح المقاومة، في جنوب أفريقيا، قيل لمناهضي الفصل العنصري: إنهم يحاربون معركة خاسرة، وإن النظام أقوى من أن يسقط، لكن نيلسون مانديلا خرج من السجن ليقول: «لقد انتصرنا لأننا رفضنا أن نُهزم».
هذا هو جوهر المعركة؛ ليست مجرد صراع حدود، بل مواجهة بين من يرى الأرض وطنًا ومن يراها ورقة تفاوض، هنا، تتجلى الحقيقة التي لا يمكن محوها؛ الأرض ليست لمن يملك القوة العسكرية، بل لمن يملك القدرة على البقاء، على التشبث بها، على إعادة بناء ما يُهدم مرة بعد أخرى، في فيتنام، ظن الأمريكيون أن القصف الجوي يمكن أن يحسم الحرب، لكنهم انسحبوا في النهاية، لأن الأرض بقيت تقاتل، في غزة، تتكرر القصة؛ القصف لا يمحو الهوية، والتشريد لا يُنسي الأجيال القادمة من أين جاؤوا، لأن القضية ليست مجرد معركة سلاح، بل صراع وجود.
القانون الدولي، رغم كل عيوبه، يقف شاهدًا على هذه الحقيقة، قرار الأمم المتحدة (242) أكد أن الاحتلال لا يخلق شرعية، وأن الأرض المحتلة لا تصبح ملكًا للمحتل بمرور الزمن، قرار (194) تحدث بوضوح عن حق العودة، لكن العالم اختار أن يتعامل مع فلسطين كاستثناء، ومع ذلك، لم تمنح القرارات الدولية يومًا الحرية لشعب، بل انتزعها أصحابها بأنفسهم.
ربما كان ترمب رمزًا لعصرٍ من الهيمنة السياسية، لكنه في النهاية ليس إلا فصلًا في كتاب التاريخ، بينما الأرض باقية، وأصحابها يتوارثون الذاكرة كما يتوارثون مفاتيح البيوت التي هُجِّروا منها، وكما قال المفكر مالك بن نبي: «المستعمر ينهزم عندما يدرك أن الشعب المستَعمَر لم يعد يخافه»، هذا ما يحدث اليوم في فلسطين، حيث يتأكد الاحتلال، مرة بعد أخرى، أن القوة وحدها لا تكفي لكسر إرادة شعبٍ قرر أن يبقى.
ترمب رحل، كما رحل من قبله كثيرون، لكنه لم يترك أثرًا إلا في دفاتر السياسة، أما الأرض، فبقيت لأهلها.
المتغطرس قد يرحل، المتكبر قد يسقط، المتعجرف قد ينهار، لكن التراب لا يخون، ولا يفرط، ولا يُساوم عليه.. في النهاية، يذهب البشر، ويبقى الوطن.