شهر القيام والقرآن والزاد الإيماني

شهر الصيام
والقيام والقرآن، شهر العبادة والتقوى والصدقة والإحسان؛ «إذا دَخَلَ رمضانُ
فُتِّحَتْ أبوابُ الرحمةِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ جهنَّمَ، وسُلسِلَتِ الشياطينُ»
(صحيح)، فلنغترف بملء أيدينا وأوقاتنا من هذا المعين الإيماني الذي لا ينضب ولا
ينفد؛ (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) (الإسراء: 79)؛ قال علماء اللغة: الهجود هو النوم، والتهجد ترك النوم
بسبب الاشتغال بالصلاة، والمعنى: ومن الليل فتهجد بالصلاة المشتملة على القرآن
الكريم، وعلى هذا تكون صيغة التهجد من صيغ السلب، كالتأثُّم بمعنى ترك الإثم،
والتحرُّج وهو البعد عن الحرج، وهكذا، ومعنى «نافلة لك»؛ أي: عبادة زائدة لك على
بقية فرائض الصلوات.
وروى مسلم عن
عائشة رضي الله عنها قالت: «من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من
أول الليل وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر»، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن
قَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً واحْتِسَاباً، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ» (رواه
البخاري)، وقال: «مَن صامَ رَمَضانَ إيماناً واحْتِساباً غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ
مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيماناً واحْتِساباً غُفِرَ له ما
تَقَدَّمَ مِن ذنبه» (رواه البخاري).
وفي قيام الليل
تحلو مناجاة الله تعالى، فتصعد الشكوى وتُبَثُّ البلوى لعالِم السر والنجوى، ويكون
الله تعالى أقرب إلى عبده في الثلث الأخير من الليل، ويكون العبد أقرب إلى الله
تعالى وهو ساجد؛ فعن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: «أقرب ما يكون الرب عز وجل من العبد في جوف الليل، فإن استطعت أن تكون
ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن» (رواه أبو داود، والترمذي واللفظ له، وقال: حديث
حسن صحيح).
الله تعالى
الجليل الكبير المتعال ينادي عباده في الثلث الأخير من الليل؛ فعن أبي هريرة رضي
الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى
سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه،
من يستغفرني فأغفر له» (رواه البخاري، ومالك، ومسلم، والترمذي، وغيرهم).
إنها ساعات
القرب من المولى سبحانه وتعالى؛ (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ) (البقرة: 186)؛ أروع كلمات قالها الإمام الشافعي يرحمه الله في
مناجاته مع الله:
كم جئت بابك
ســائلاً فأجبتني من قبل حتى أن
يقــول لساني
واليوم جئتك تائـباً
مستـغفراً شيءٌ
بقلـــبي للـهدى ناداني
عيـناي لو تبكي
بقــية عمرها لاحتجت
بعد العمر عمراً ثاني
إن لــم أكن
للـعفو أهلاً خالقي فأنـت أهل العفو والغــفران
روحي لنـورك يا إلهي
قد هفت وتشققت عطـــشاً لهُ أركاني
فاقبل بفضلك
توبة القـلب الذي قد جاء هرباً من دجى العصيان
واجعله في وجه
الخـطايا ثابتاً صـلباً قوياً ثابـت الإيمان
وأعظم مناجاة دعاء
رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه كان إذَا قَامَ من الليل يتهجد،
قائلاً: «اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ
فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ،
وَلَكَ الحَمْدُ أنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ
الحَمْدُ أنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أنْتَ الحَقُّ
وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ،
وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ،
وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ
حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ،
أنْتَ المُقَدِّمُ، وَأنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إلَهَ إلَّا أنْتَ» (أخرجه البخاري).
قيام الليل طريق
آمن واضح إلى الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا
الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» (رواه الترمذي)، وهو جهدٌ وجهاد
ورباط لا يتحمله إلا الرجال الأقوياء العظام، قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي
صلى الله علية وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول
الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً» (متفق
عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن
قيام الليل قربة إلى الله ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد» (رواه
الترمذي).
فلنحرص على قيام
الليل في رمضان وسائر العام، ولنذكر إخواننا المجاهدين والمرابطين والمحاصرين والأسرى
والمسجونين المعتقلين والفقراء المساكين واللاجئين النازحين والمتغربين طالبي
الرزق في أقطار الدنيا، ولنذكر في قيامنا العلماء والدعاة والخطباء وطلبة العلم، وكل
ما نريده لأهلينا وذوينا فلندع به للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
والحمد لله رب
العالمين.