24 فبراير 2025

|

علمانيون وإسلاميون

م. محمود صقر

24 فبراير 2025

127

تمر هذه الأيام ذكرى انقلاب 28 فبراير 1997م في تركيا، التي مثلت ذروة الانقسام بين التيار العلماني والتيار الإسلامي بعد عقود من تطبيق العلمانية في تركيا، فبعد سنوات من سيطرة العلمانية على المشهد السياسي في تركيا حقق حزب الرفاة الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان الفوز بالمرتبة الأولى في الانتخابات عام 1996م، ونجح في تجاوز العقبات في طريق تشكيل حكومة برئاسته، وبدأت المؤسسة العسكرية المهيمنة على الحياة السياسية التخطيط لإسقاطه عبر حملة تشهير اعتمدت فيها على إظهار توجهه الإسلامي واعتباره معادياً لعلمانية البلاد، واستغلت توجه أربكان في سياسته الخارجية نحو العالم الإسلامي والعربي وسعيه لتأسيس مجموعة الثماني الاقتصادية، التي تضم إلى جانب تركيا كلًا من مصر وإيران وباكستان وإندونيسيا ونيجيريا وماليزيا وبنغلاديش؛ تمهيدًا لإقامة سوق إسلامية مشتركة، وكذلك عمله على زيادة عدد مدارس الأئمة والخطباء وفتح مدارس تحفيظ القرآن، وغير ذلك من المظاهر التي اعتبرتها المؤسسة العسكرية والنخبة العلمانية انقلاباً على علمانية الدولة.

وبدأت المؤسسة العسكرية بحملة تحريضية ضد ما سمته التيارات الرجعية، واستدعت إلى مقر رئاسة الأركان المسؤولين عن وسائل الإعلام، ورؤساء الأحزاب السياسية، وعدداً من رؤساء الجامعات والقضاة ومسؤولي اتحادات العمال والغرف التجارية إلى مقر رئاسة الأركان، وطالبتهم بإطلاق حملات شعبية ضد حكومة أربكان والتيارات الرجعية، وخرجت النساء في أنقرة إلى الشوارع ضد التيارات الرجعية، وتم ملاحقة بعض المحجبات في الشوارع ونزع حجابهن، وظلت أجهزة الإعلام تبث الخوف في نفوس الشعب عبر نشر الأخطار المحتملة من عودة الرجعية التي وصفها قائد القوات البحرية التركية الأميرال غووان أركايا بأنها أخطر من الإرهاب.

وبالتزامن مع تهييج الشارع تحت تأثير حملة الكراهية، اجتمع مجلس الأمن القومي في 28/ 2/ 1997م ووضع قائمة بالإملاءات التي يجب على الحكومة تنفيذها، ومنها: تطبيق مبادئ العلمانية، وتفتيش المدارس الدينية، وإغلاق مدارس الأئمة والخطباء، وحظر دخول المحجبات إلى الجامعات بحجابهن، وإبعاد العديد من الأكاديميين والموظفين والضباط المشتبه بانتمائهم أو تعاطفهم مع الإسلاميين عن عملهم، وإغلاق عدة شركات بزعم دعمها للتيارات الإسلامية؛ ما اضطر أربكان لاحقاً للاستقالة، وأعقب ذلك إغلاق حزب الرفاه بذريعة أنه يهدد أمن البلاد ويعرضها للحرب الأهلية.

مثلت هذه الأحداث شرخاً عميقاً داخل المجتمع التركي وأقامت جداراً سميكاً بين التيار العلماني والتيار الإسلامي، وما زالت تلك الأحداث حاضرة في الذاكرة المجتمعية.

ولم يمض على تلك الأحداث سوى سنوات معدودة حتى ظهر حزب العدالة والتنمية عام 2001م، ثم فوزه الكبير بنسبة 34% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية عام 2002م بعد 5 سنوات فقط من الانقلاب على أربكان، ثم توالى تثبيت حضور الحزب الذي غيّر وجه الحياة السياسية التركية، وأحدث نهضة في كل المجالات، والأهم من ذلك أنه صَدَّعَ جدار الكراهية السميك بين العلمانيين والإسلاميين الذي رعته المؤسسة العسكرية التي كانت تعتبر نفسها حامية العلمانية التركية وحارسة الدولة ضد الرجعية.

ولكي ندرك مدى الشرخ المجتمعي بين التيار العلماني والتيار الإسلامي في تركيا، نستكشف من خلال الإنتاج الأدبي لهذه الفترة وصف دقيق للأديب التركي أورهان باموق الحائز على جائزة «نوبل» للأدب عام 2006م، والمولود عام 1952م في مدينة إسطنبول من عائلة ثرية علمانية، حيث قدم في جزء من كتابه «إسطنبول المدينة والذكريات» نظرته العميقة من داخل المجتمع كفرد في عائلة أرستقراطية علمانية، حيث صورت له عائلته وهو طفل مجتمع المتدينين على أنهم جزء من الماضي الذي يعوق تقدم البلاد، وداخل منزله كان يرى فقط الخدم والطهاة هم الذين يصلون ويصومون، وحين ساقه الفضول وهو صبي لدخول الجامع ووجد المصلين طيبين وودودين، حذرته العائلة من أن هناك تناقضاً بين الجانب الطيب والبريء الظاهر من هؤلاء الناس، وبين معتقداتهم التي تعوق مشروع الحداثة والتغريب والتنمية الذي تسير فيه بلاده بكل حزم، وأن عليه أن يشارك العائلة في معارضة معتقدات هؤلاء الناس، وأن من حق طبقتهم العلمانية أن تحكم هؤلاء الجهلة، ليس فقط لأن عائلته ومن على شاكلتهم يملكون السلطة والمال، بل لأنهم تغربوا وصاروا متمدنين، وهذا الحق في حكم هؤلاء ليس نابعاً من مصلحة شخصية أو طبقية، بل هو في مصلحة الوطن!

ويقول: تعلمت من وسائل الإعلام، والكاريكاتيرات التي تتناول الشخصيات الرجعية كالنساء المحجبات والرجال ذوي اللحى، أن المعتقد المحبب لهؤلاء المؤمنين يمكن أن يصل إلى أبعاد خطيرة تضر بنا وبالوطن، وبالتبعية كنت أشعر بأن وجودنا بوصفنا طبقة علمانية داعمة للعسكر حماة العلمانية، لنا كل الحق في كبت وقهر وحكم هؤلاء الجهلة.

نستطيع من خلال هذا الوصف إدراك عمق الشرخ وارتفاع الجدار العازل الذي تمت صناعته عبر عقود من خلال سلطة الدولة وهيمنتها على وسائل التوجيه الثقافية والتعليمية والإعلامية، التي صنعت حالة من الشك والحذر والخوف وسوء الفهم بين مكونات الشعب الواحد.

ثم دار الزمن دورته ورأى الناس وجهاً آخر في إدارة الدولة ساهم في نهضتها ورقيها وتحويلها للاعب أساس في الساحة الدولية، وفي كل الأحوال لا العلمانيين اختفوا أو سيختفون، ولا الإسلاميين اختفوا أو سيختفون، فكلاهما أبناء وطن واحد يسع الجميع، وصار التنافس في خدمة الوطن بديلاً عن خطاب الكراهية، وصار صوت المواطن واختياره هو الحَكَم بين المتنافسين.

وما زالت التجارب معروضة أمام من يريد التعلم، فلا نهضة لوطن يبني جدران الكراهية بين مواطنيه، ولا أمن ولا أمان لوطن نسيجه الاجتماعي ممزق. 


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة