6 فوائد للعبادة في غفلة الناس
روى أحمد، والنسائي، عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ».
في الحديث تأكيد على أن رصد أوقات غفلة الناس واغتنامها بالأعمال الصالحة كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، حيث حرص على ذلك، وأوضح في أحاديث متعددة أهم الفضائل التي يكتسبها المتعبد لله تعالى في وقت غفلة الناس، ويتبين ذلك فيما يأتي:
1- من أفضل الأعمال بسبب المشقة:
أورد ابن القيم أقوال العلماء في أفضل العبادات، وذكر أن الصنف الأول، عندهم أنفَعُ العبادات وأفضَلُها: أشقُّها على النُّفوس وأصعَبُها، قالوا: لأنّه أبعد الأشياء من هواها، وهو حقيقة التّعبُّد، وقالوا: الأجر على قدر المشقّة، وهؤلاء هم أهل المجاهدات والجَور على النُّفوس، قالوا: إنّما تستقيم النُّفوس بذلك، إذ طبعُها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الأرض، فلا تستقيم إلّا بركوب الأهوال وتحمُّل المشاقِّ(1).
وإن من أشق الأعمال على النفس ما كان في وقت غفلة الناس، وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء جنسها، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم؛ كثر أهل الطاعة، لكثرة المقتدين بهم، فسهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها؛ تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها.
ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «للعامل منهم أجر خمسين منكم إنكم تجدون على الخير أعواناً ولا يجدون»، وقال: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء»، وفي رواية قيل: ومن الغرباء: قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس»(2).
2- زيادة الأجر والثواب:
تسهم العبادة في وقت الغفلة في زيادة أجر فاعلها، ويدل على ذلك ما جاء في زيادة أجر قائل دعاء السوق، حيث روى أحمد، وابن ماجه بسند حسنه الألباني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يَدْخُلُ السُّوقَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»؛ قَالَ الطِّيبِيُّ: خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَكَانُ الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالِاشْتِغَالِ بِالتِّجَارَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ سَلْطَنَةِ الشَّيْطَانِ وَمَجْمَعُ جُنُودِهِ فَالذَّاكِرُ هُنَاكَ يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ وَيَهْزِمُ جُنُودَهُ فَهُوَ خَلِيقٌ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الثَّوَابِ(3).
3- إدراك ثواب الهجرة إلى النبي:
يؤدي العمل الصالح في وقت غفلة الناس إلى رفع مقام فاعله وزيادة درجته، حيث يرتقي إلى رتبة الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العباد في الهرج كالهجرة إليَّ»، وأخرجه الإمام أحمد بلفظ: «العبادة في الفتنة كالهجرة إليّ».
والهرج أو الفتنة تعبير عن حالة الغفلة العامة لدى الناس، وسبب تحصيل هذه الدرجة أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين، فتكون حالهم شبيهة بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه؛ كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به متبعاً لأوامره مجتنباً لنواهيه(4).
4- تحصيل محبة الله:
روى أحمد في مسنده بسند صحيح عن أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ، رَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ فَأَعْطَاهُ سِرًّا لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ، نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقَوْا الْعَدُوَّ فَهُزِمُوا، فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَفْتَحَ اللهُ لَهُ»؛ فهؤلاء الثلاثة انفردوا عن رفقتهم بمعاملة الله سراً بينهم وبينه فأحبهم الله، فكذلك من يذكر الله في غفلة الناس أو من يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام(5).
5- الحماية من الرياء:
العبادة في وقت الغفلة لا يلتفت الناس إليها في الغالب، حيث تكون خفية عنهم، وإخفاء العبادة لا يجعل صاحبها في انتظار مدح الناس له؛ لأنهم لا يرونه، فيكون ذلك أخلص في العبادة أو أبعد عن الرياء، ولهذا كان الصيام من أهم العبادات التي تحقق الإخلاص وتحارب الرياء، لأنه سر بين العبد وربه.
6- دفع البلاء عن عامة الناس:
قد يدفع المنفرد بالطاعة البلاء عن الناس كلهم، فكأنه يحميهم ويدافع عنهم، وفي هذا روى البيهقي، والبزار، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذَاكِرُ الله فِي الغافِلِينَ مِثْلُ الَّذِي يُقاتِلُ عَنِ الفارِّينَ»، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ كَحَامِي الْمُحْتَسِبِينَ»؛ فلولا المقاتل لعم البلاء الهاربين، ولولا الذاكر لهلك الناس أجمعين.
ومن الأدلة على أن العابد في وقت غفلة الناس يدفع عنهم البلاء؛ ما جاء في تأويل قوله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) (البقرة: 251)، أنه يدخل فيها دفعة عن العصاة بأهل الطاعة وجاء في الأثر: أن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده وذريته ومن حوله(6).
_________________________
(1) مدارج السالكين (1/ 132).
(2) لطائف المعارف: ابن رجب الحنبلي، ص 132.
(3) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: الهروي (4/ 1687).
(4) لطائف المعارف: ابن رجب الحنبلي، ص 132.
(5) المرجع السابق.
(6) المرجع السابق.