05 فبراير 2025

|

نحن والاستبداد في ممارساتنا اليومية!

د. مي سمير

04 فبراير 2025

9095

إن كثيراً من الدراسات التي تناولت ظاهرة الاستبداد بالبحث والتحليل ركزت جُل الاهتمام على الجانب السياسي لتلك الظاهرة، في ظل اعتبار الاستبداد ظاهرة سياسية بالأساس تلقي بظلالها السلبية على المجتمع الخاضع لتأثيرات السلطة، وبذلك يكون الاستبداد السياسي للسلطة هو العامل الأهم المستقل في تلك المعادلة، بينما يكون المجتمع هو التابع الذي يكون بمثابة المفعول به. 

لكن تلك الدراسات قد أغفلت الجانب التراكمي للاستبداد الذي يطال الممارسات اليومية الجزئية للأفراد في حياتهم الشخصية والاجتماعية؛ فينتج عنها نمط من السلوكيات الفردية التي تصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصية الفرد، وينتج عنها ما أشار إليه الكواكبي بأن «يصير الإنسان مستبداً صغيراً في كنف المستبد الأعظم». 

وبطول أمد تلك الممارسات يتحول الفرد من مفعول به في معادلة الاستبداد إلى طرف وفاعل رئيس يمارس الاستبداد ويدافع عنه ويمثله، ومن ثم يقاوم أي محاولات حقيقية لتغيير نمط الحكم الاستبدادي.

لذلك، فإن الفهم المتعمق لظاهرة الاستبداد يحتاج إلى دراسة آثار ظاهرة الاستبداد في المواطنين لا السلطة، ونتائج ذلك على تكريس الاستبداد في كافة مناحي الحياة؛ بما يجعل كل فرد في المجتمع بمثابة حاكم مستبد قائماً بذاته، ومن ثم استحالة إزاحة الحكم الاستبدادي بمجرد تغيير رأس الهرم واستبداله بآخر دونما اعتبار لما قد أصاب أفراد المجتمع من تأصيل للاستبداد في نفوسهم واعتيادهم عليه كجزء لا يتجزأ من القيم والأعراف والأخلاق والممارسات اليومية.

الاستبداد الفردي

وإذا كان الإنسان، كما لدى الفارابي، عقل ونفس وبدن، فإن ذلك الإنسان بعد خضوعه لفترات طويلة من القمع والقهر يفقد كثيراً من ميزاته الإنسانية في كافة مكوناته العقلية والنفسية والجسمانية على السواء، ثم ينعكس ذلك الفقد على تغيرات جوهرية في سلوكيات المواطنين والأفراد في الدول المستبدة أو تلك التي حظيت بحكم ديمقراطي جديد بعد فترات طويلة من الحكم الاستبدادي، بما يفسر كثيراً من الظواهر المنتشرة في تلك الدول، ويجيب عن تساؤلات ملحة تثار بشأن خضوع وانسحاق إرادة كثيرين من هؤلاء الأفراد وتشوه طرائق التفكير والتحليل وأساسيات الفهم وبديهيات الأخلاق والحياة لديهم، وعجزهم عن ممارسة حرياتهم حتى بعد زوال الحكم الاستبدادي.

وفيما يلي نستعرض الأقسام الثلاثة للإنسان وما يطرأ عليها من تشوهات نتيجة الخضوع للاستبداد، وانعكاسات ذلك على ممارسات كل قسم منها، فيتجلى تشوه العقل في ميادين العلم والفكر والتربية، ويظهر تدني النفس في مجال الأخلاق والتدين، وينعكس الاستبداد في ساحة البدن عبر العنف المادي وانتشار الأمراض، وفيما يلي تفصيل ذلك:

- العقل (العلم والفكر):

يحظى العقل البشري بالعلم والفكر بواسطة السؤال، وينبني الاستبداد على الطاعة العمياء، ولا يجتمع السؤال والشك مع الطاعة بأي حال من الأحوال، ومن ثم فإن العقل البشري الذي اعتاد تلقي الأوامر وتنفيذ التعليمات دون مناقشة قد عطل عقله اختياراً بما يؤدي بمرور الوقت لتشويه العقل وإماتة القدرات الفكرية والتحليلية لدى كثير من أولئك الذين عايشوا الحكم الاستبدادي لفترات طويلة. 

ويشيع نتيجة لذلك التقليد الأعمى الذي نهى عنه القرآن في غير موضع، مؤكداً بأن اتباع الآباء أو السابقين بغير علم أو تدبر لا يغني عن حساب كل إنسان عما اختاره من إيمان أو ضلال، وهذه المسؤولية الفردية تعني حضاً على إعمال العقل، وحثاً على التشكك في السائد والموروث، ورفض التلقي المطلق والطاعة العمياء.

وتنعكس تلك الآثار العقلية أيضاً في مجال التربية والتنشئة، فتظهر ما تسمى «السلطة الأبوية» التي يستبد فيها الأب على الأسرة، وتستبد الأم على الأطفال، وينهر الآباء أبناءهم إذا ما تجرؤوا على طرح الأسئلة عن الأعراف السائدة أو حتى الموروث الديني، ويُستبدل العنف بالإقناع، فتنشأ أجيال تلو الأخرى على الخوف من السؤال وتدور في فلك الطاعة والتقليد ويندر الإبداع والابتكار.

- النفس (الأخلاق والدين):

(قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى) (طه: 45)؛ في تلك الآية، يتمثل بشكل ظاهر للعيان ما يمكن أن يخلقه الاستبداد والطغيان من آثار جسيمة على النفس البشرية فينعكس مباشرة في الدين، فبعد معجزات إلهية جلية يراها موسى، وهارون، عليهما السلام، رأي العين، لا يزال أثر الخوف من الاستبداد طاغياً على يقين الإيمان، وهو ما يوضح مدى تشويه الاستبداد للدين في نفوس المؤمنين نتيجة الخوف، فيتحول الإيمان من أداة للتغيير وعمارة الكون إلى طقوس مفرغة من مضمونها وانصراف عن الدنيا.

وإذا ما عقدنا مقارنة بين بني إسرائيل وأهل الجزيرة العربية ومسيرة كل منهما في اتباع رسولهم الذي جاء إليهم برسالة جديدة عما وجدوا عليه آباءهم، نجد أن بني إسرائيل الذين تربوا في كنف الاستبداد الفرعوني قد تشربوا بفساد القدرة العقلية والنفسية نتيجة طول أمد العبودية، فلم يتمكنوا من ترسيخ الإيمان في نفوسهم التي تشوهت بفعل الطغيان. 

أما القبائل العربية التي اعتادت نمط الحياة البدوية القائمة على الحرية والانطلاق، فقد بني على أكتافها حضارة إسلامية راسخة وتدين روحاني أسهم في نشر الرسالة في مشارق الأرض ومغاربها، وارتقى بالحضارة البشرية بإنجازات واكتشافات وأفكار لم تكن لتنشأ في ظل بيئة حضرية خاضعة لنظام حكم كسروي أو قيصري.

- البدن (العنف والمرض):

وبخلاف أمراض العقل والنفس التي ناقشناها سالفاً، فإن البدن أيضاً يطاله آثار العيش في كنف الاستبداد؛ إذ ينتج عن غياب آداب الحوار والمناقشة والإقناع وقبول الآخر سيادة التطرف والإقصاء والكراهية التي تخلق معاً ظواهر العنف البدني داخل الأسرة وفي النظام التعليمي وحتى في التشجيع الكروي وكافة مؤسسات ونواحي المجتمع بأسره، وقد تؤدي إلى اتساع دائرة العنف نتيجة رفض الآخر فتنشأ حروب أهلية دموية تودي بحياة مئات وآلاف وربما ملايين البشر نتيجة تأصل الاستبداد في نفوس الأفراد وعجزهم عن اتباع نمط حياة قائم على الانفتاح والفهم.

كما ينشأ المرض نتيجة الجهل وغياب القدرات العقلية وانتشار التقليد في تلقي العلاج ورفض التغيير والانصراف عن الاطلاع على الأساليب الحديثة في الحياة الصحية وسلوكيات النظافة والعناية بالجسد؛ ما يؤدي إلى انتشار الأمراض وضعف الأبدان كما ضعفت العقول.

المستبد العادل

ونتيجة لتأصل الاستبداد في نفوس الأفراد، ذهب كثير من المفكرين إلى اعتبار دائرة الاستبداد غير قابلة للكسر عبر ثورات خاطفة أو تمردات مفاجئة تُحدث التغيير في قمة الهرم تاركة سائر أنحاء البلاد تغوص في استبداديتها، وبذلك نشأت فكرة المستبد العادل. 

وعلى الرغم من أن الإمام محمد عبده قد استحدث المفهوم حين قال: «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل»، إلا أن كثيرين قد تناولوا المفهوم ذاته من قبل الإمام وبعده، فنجد ابن رشد قد أشار إلى الفكرة ذاتها في شرحه لكتاب «السياسة» لأفلاطون في معرض مناقشة أنظمة المدن غير الفاضلة، وطرائق التحول من تلك المدن إلى المدينة الفاضلة، مؤكداً أنه عندما يكون هناك عبر فترة من الزمان تطول سلسلة من الملوك فاضلي السيرة من الذين يحكمون هذه المدن، حيث يؤثرون كل التأثير على هذه المدن بصورة تدريجية إلى أن يحين الوقت الذي تقوم فيه الحكومة الفاضلة.

أما الكواكبي فقد رأى بأن فكرة المستبد العادل التي ينشدها المسلمون غير ممكنة، إذ إن العقل لا يجوز أن يتصف بالاستبداد مع العدل؛ ما جعله يذهب إلى رفض الفكرة واعتبارها مستحيلة التحقق، ومن ثم اعتبر انتظار هذا المستبد العادل بمثابة ركون من جانب المسلمين لتعليق آمالهم على أمل غير ممكن رغبة في عدم إتعاب فكرهم في إيجاد حل عملي وحقيقي لظاهرة الاستبداد وتأصلها فيهم.

ولذلك، تستمر دائرة التنشئة التي تخلق أفراداً مستبدين عقلياً ونفسياً وبدنياً، ناقلين تلك الأمراض جيلاً بعد الآخر في عملية تنشئة قائمة على العنف والسلطة الأبوية، فتغذي تلك السلوكيات تقبُّل المجتمع للاستبداد، بل قد يصبح المجتمع مقاوماً للحرية إذا ما قامت ثورة أو نشأت محاولات إصلاحية من رأس الهرم السياسي، رغبة من ذلك المجتمع في التمسك بجهالته، متشككاً في الحرية ورافضاً لها، وهو ما يعني أن مقاومة الاستبداد يجب أن تنشأ أولاً في النفوس والعقول وإصلاح مكامن الخلل فيها أولاً قبل السعي لتغيير الأنظمة السياسية.


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة