مجاهدون ارتبطت أسماؤهم برمضان..
سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب

كانت شوارع مكة
تعج بالصراع بين الحق والباطل، وبين ظلم قريش وحقوق وانتهاك حرمة رجال الدين
الجديد الذين أقلقهم ونازع زعامتهم وساوى بين فقيرهم وغنيهم في الحقوق والواجبات
المجتمعية، ونادى بالعدل والرحمة والكرامة، وأتى بمكارم الأخلاق كالصدق والحب
والتكافل والأخوة بين المؤمنين، كان المسلمون قلة قليلة، في مجتمع اصطدم بفكرة
التوحيد، ويعبد أصناماً يصنعها بيده.
ووسط ذلك
الصراع، كان هناك رجال تحتويهم دار الأرقم بن أبي الأرقم، يربيهم فيها نبي الإسلام
على عين الله عز وجل ورعايته، رجال يزن الرجل فيهم أمة بكاملها، استطاعوا فيما بعد
في سنوات معدودة أن يقوموا بفتح الجزيرة العربية، وبلاد فارس والروم، ويقيموا
حضارة غيّرت وجهة العالم نحو السماء.
انطلق هؤلاء
الرجال خاصة في رمضان ليحددوا معنى الصيام بحق، فتحولت البطون الفارغة لقلوب عامرة
بالإيمان، وأجساد تحدت جاذبية الأرض، لتحلق في سماء المجد بخفة وبطولة، وكان من
هؤلاء المجاهدين الذين ارتبطت أسماؤهم برمضان، سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب.
عم
النبي وأخوه من الرضاعة(1)
هو حمزة بن
عبدالمطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، ولد قبل النبي صلى الله عليه وسلم
بعامين، وتربى معه في حضن عائلة لها مكانتها التاريخية في أم القرى، وبالرغم من
أنه يكبره، فإن أبا عمارة كان يرقب ابن أخيه «المختلف» عن أقرانه، حيث لا عبث
مثلما يعبثون، ولا كذب وقد عرف بالصادق الأمين، ولا خمر كالتي يتباهون بها في بطن
مكة، ولا سهرات تنال من هيبة صاحبها مثلما يفعل الشباب في مثل عمره.
وفي الوقت الذي
بدأت قريش ترفع راية حربها على نبي الله صلى الله عليه وسلم الذي بدأ دعوته، واشتد
بأسها عليه وعلى أصحابه، كان حمزة ما زال يراقب ثبات صاحبه، وأخيه، ورفيق دربه،
ذلك الشاب الذي تربى لجواره يتيماً، كيف له أن يتحمل وهو ابن الأكرمين ذلك الكم من
العداء من قومه وهم أعلم ما يكون به، فيروح حمزة ويجيء وهو يرى ثبات أصحاب الفكرة
الوليدة، وإصرار رفيقه على الاستمرار، ليفكر طويلاً لينطق بالحق فجأة قائلاً: أتسب
محمداً وأنا على دينه؟
إسلام
حمزة(2)
لم يكن إسلام
حمزة واتباعه لابن أخيه عجباً، إنما العجب أن يظل حمزة في تيه الكفر وهو أعرف
الناس بمحمد وصدقه وعقله وطهارته ورجولته، هو أعرف الناس ببراءته صلى الله عليه
وسلم من أي دنس سواء في طفولته أو شبابه.
ولذلك فقد
أوصلته رجاحة عقله للإسلام مطمئناً، ولم يكن ذلك نتاج موقف حمية كما يحسب البعض،
وإنما نتاج تفكير طويل، ومراقبة دقيقة لمدى ثبات تلك الفئة المؤمنة المستضعفة التي
تحملت ما لا يتحمله بشر في التعذيب والانتهاك لإرجاعهم عن دينهم، لكنهم لم يفعلوا
رغم تكالب الأعراب عليهم.
لقد رأى حمزة
مواقف السب والتعذيب كثيراً، لكنه حين اطمأن قلبه، نطق بها، فبينما هو عائد من
الصيد، سمع أن أبا جهل قد نال من ابن أخيه ما نال، فطفق يبحث عنه وهو متوشح قوسه،
حتى وجده في فناء الكعبة يتوسط بعض قريش، فتقدم حمزة بهدوء ثم هوى على رأس أبي جهل
فشجه حتى سال الدم من رأسه وهو يقول: «أتشتم محمداً، وأنا على دينه، أقول ما يقول؟
ألا فردّ ذلك عليّ إن استطعت»(3).
ومع ذلك، فإن
حمزة الحكيم المتعقل دوماً قد اعتراه الندم وراجع أمره في إسلامه، لكن العقل وحده
لا يكفي في مثل تلك الأمور، والحكمة تتهاوى أمام تغيير دين الآباء إيماناً بدين
جديد، ولا سبيل للإنسان حينئذ إلا أن يستعين بصاحب الأمر ليهدي قلبه، فيروي هو عن
نفسه: «ثم أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي، وبت من الشك في أمر عظيم، لا
أكتحل بنوم، ثم أتيت الكعبة، وتضرّعت إلى الله أن يشرح صدري للحق، ويذهب عني
الريب، فاستجاب الله لي وملأ قلبي يقيناً، وغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأخبرته بما كان من أمري، فدعا الله أن يثبت قلبي على دينه»(4).
حمزة
أسد الله وأسد رسوله ويوم «بدر»
ومنذ إسلام
حمزة، أوقف حياته خالصة للدفاع عن دين الله وعن رسوله، فكان في كل موقف أسداً
ينافح بقوة، فلقبه النبي صلى الله عليه وسلم «أسد الله، وأسد رسوله»، فكان أميراً
لأول سرية في سبيل الله، وصاحب أول راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم لأحد من
المسلمين، وفي يوم «بدر» كان له شأن.
وفي 17 رمضان 2هـ
أذن الله عز وجل للمسلمين بالقتال، فأتت اللحظة التي ينتظرها المسلم الحق ليذود
بنفسه عن حرمات الإسلام والمسلمين، وليكون حمزة أول من يبدأ القتال أمام صناديد
الكفر من مكة.
«فقد خرج رجل من
جيش قريش هو الأسود بن عبد الأسد المخزومي القرشي فقال: «أعاهد الله لأشربن من
حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه»، فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبدالمطلب، فلما
التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله
دمًا نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن يبر يمينه، وأتبعه حمزة
فضربه حتى قتله في الحوض»(5).
ثم خرج بعده
عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا فصل من الصف
دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة، وهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث
-وأمهما عفراء- ورجل آخر يُقال هو عبدالله بن رواحة، فقالوا: «من أنتم؟»، فقالوا:
«رهط من الأنصار»، قالوا: «ما لنا بكم من حاجة»، ثم نادى مناديهم: «يا محمد، أخرج
إلينا أكفاءَنا عن قومنا»، فقال الرسولُ محمدٌ: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا
حمزة، وقم يا علي».
فلما قاموا
ودنوا منهم، قالوا: «من أنتم؟»، قال عبيدة: «عبيدة»، وقال حمزة: «حمزة»، وقال علي:
«علي»، قالوا: «نعم، أكفاء كرام». فبارز عبيدةُ، وكان أسن القوم، عتبةَ بن ربيعة،
وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة، فأما حمزة فلم يُمهل شيبة أن
قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين،
كلاهما أثبت صاحبه (أي جرحه جراحةً لم يقم معها)، وكرَّ حمزة وعلي بأسيافهما على
عتبة فذففا عليه (أي أسرعا قتله)، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه»(6).
«وقاتل يوم «بدر»
بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم بسيفين»(7)، وقد رُوي عن عبدالرحمن
بن عوف أنه قال: قال لي أمية بن خلف، وأنا بينه وبين ابنه آخذ بأيديهما (أي وهما
أسيران عنده): «يا عبد الإله، من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟»، قلت:
«ذاك حمزة بن عبدالمطلب»، قال: «ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل»(8).
يوم
«أُحد» واستشهاد حمزة
هل كان لقريش أن
تمرر هزيمتها بـ«بدر» دون ثأر بعد مقتل سادتها وكبرائها؟ بالطبع ما كانت لتفعل
ذلك، بل وكأن الثأر الأكبر من نصيب حمزة الذي أذاقهم مر القهر، فخرجت قريش عن بكرة
أبيها، بغلمانها ونسائها ورجالها مع من حالفهم من العرب يقودهم أبو سفيان بن حرب،
ووجدوا رجلاً ذا بأس شديد في الرمي والتصويب لتكون مهمته حمزة وحده، على أن يكون
أجره الحرية وقد كان عبداً لجبير بن مطعم، وأتت هند بنت عتبة لتعده بكل ما تملك من
حلي إن هو قتل حمزة
قاتل حمزة قتالاً
شديداً، خاصة بعد نزول الرماة وانكشاف ظهر المسلمين وتعرض النبي صلى الله عليه
وسلم للخطر حتى أتاه وحشي بن حرب من ظهره، الذي لم يقاتل إلا لقتل حمزة، ولنيل
حريته، واستطاع في لحظة غدر أن يصوب عليه حربته، ليقتل حمزة، ويمثل بجسده، وتلوك
هند بنت عتبة كبده، ويصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم بعدد شهداء «أحد»، ويقسم
أن يمثل بثلاثين رجلاً من قريش، فتتنزل الآيات الكريمة تكريماً لحمزة: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {125}
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ {126} وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ
وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ {127} إِنَّ
اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل)، فتواسي النبي صلى الله عليه وسلم في عمه، وتثبت أركان
أخلاق الدعوة في العدل حتى مع العدو، فرحم الله سيد الشهداء ورضي عنه.
_____________________
(1) سير أعلام
النبلاء للإمام الذهبي شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ص 172 (بتصرف).
(2) أسد الغابة
في معرفة الصحابة، السيرة النبوية لابن هشام، البداية والنهاية لابن كثير (بتصرف).
(3) سيرة ابن
هشام، ص 171، 172.
(4) رجال حول
الرسول، خالد محمد خالد.
(5) سيرة ابن
هشام ج1، ص 624، 625.
(6) المرجع
السابق.
(7) أسد الغابة،
ج2، ص 67.
(8) سيرة ابن
هشام، ج1، ص 632.