01 فبراير 2025

|

سيد الظل والميدان

علي إبراهيم

01 فبراير 2025

39

منذ أن شاهدت كلمة الملثم المصورة، فكري مشغول بهذه الشخصيات الفريدة التي لا تُشبه غيرَها، ولا يُشبهها أحد، فقد طفقت تتوارد عليّ المعاني والصور والكلمات، منذ أن سمعت نعي الشهيد القائد العام لكتائب القسام أبو خالد محمد الضيف من خلال هذا المقطع المصور، لم يكن في حضوره أو غيابه إلا رمزًا قائمًا بحدّ ذاته، كأنه "شبح" شغله الشاغل أن يصاول العدو، وما استطعت توصيفه، حتى وقفت على هذا الأثر العظيم، الذي يتنزّل على أبي خالد، فقد قال سيد هذه الأمة ومعلمها صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَبْرَارَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ"، (رواه ابن ماجه).

وهو والله كذلك، كان مصباح هدًى ونبراس جهاد، وجهه الخفي الذي ما عرفناه إلا من صورة قديمة إبان شبابه، وبقي كأنه صاحب النقب في زماننا، لا يعرفه إلا الخُلص، ولا وجه نتذكره كل حين، بل طيفٌ لدنيّ يطوف في مخيال كل شاب تعلق بهذا الجهاد العظيم، كان نقيًّا خفيًّا بارًّا، بَرًّا بدينه أولًا، فكان نعم المجاهد العامل الصامت، وبرّ وطنه ثانيًا، منافحًا عنه في كل معركة ومكان، وبرّ شعبه وأمته، فكان منهم عاش كأفقرهم وارتقى كواحدٍ منهم، فهو سيدٌ من سادات الشهادة، كان غائبًا عنا، ولكن غيابه فيه وجه الحضور، غاب عنا رسمه وصورته، وبقي في قلوب أمته باسمه وفعله ومكانته وموقعه، وكم من وجه حاضرٍ في حيواتنا، ولكنه الغائب الدائم عن الوجدان والروح.

يعطي الشهيد فلا والله ما شهدت
عيني كإحسانه في الناس إحسانا
وغاية الجود أن يسقي الثرى دمه
عند الكفاح... ويلقى الله ظمانا

لقد ارتقى أبو خالد قبل عدة أشهر، وربما أكثر، ولكنه استطاع بناء تنظيمٍ خاض معارك استثنائية، وثبت أمام أعتى قوى الأرض عامًا وبضع أشهر، وبقي حتى اللحظات الأخيرة يُثخن في العدو، ويقضّ مضاجعهم، ويذيقهم حمم الياسين، وكمائن الموت، وها هي مشاهد تبادل الأسرى، تؤكد مرة أخرى أن أبناء الضيف ذلك المجاهد الصنديد، على عهده، إيمانًا، وتفكيرًا، وتخطيطًا، وعزةً، وإباءً، وقدرة وفكرًا.

لقد أورثتنا هذه المعركة ثأرًا جديدًا، ومشاعر لا نعرف كنهها، وما كان الدمع يجف على قائدٍ صنديد، حتى يذرف الدموع السحساحة على قادة ميامين آخرين، وما زالت عصا السنوار، والمقعد الذي ارتقى عليه، وأبيات شوقي التي ترنم بها، ماثلة فينا، حتى كان خبر ارتقاء قائد جحافل المجاهدين، فارس الظل المظفّر الشهيد السعيد، لا يستطيع المرء أن يرثي نفسه، ولكنه يكتب عن الكثيرين ممن عاش معهم وعايشهم، ولكن أن تكتب عن طودٍ عظيم، رأيت ثمرة جهده، وعلمت عظمة جهاده من دون أن تلقاه، ضربٌ من الكتابة عسير، ولا يسع الواحد منّا إلا أن يرجو أن يكون ممن يمضي في ركب هذا البطل وركب من سبقه بصدق، فهو أعظم رثاءٍ يُمكن أن يقدّم، دربٌ الجهاد، والذي سلكه مشاعل الهدى وأقمار هذا الديجور المطبق.

وصف أحد الأحبة الضيف بأنه وزير دفاع شعوبنا المكلومة، وقد صدق في هذا الوصف، رجلٌ باع عمره لله تعالى، ما هادن، ولم يقعد عن العمل بذريعة المرض أو الاغتيالات المتكررة، فقد شاهد العالم أجمع بصماته في كل ميدانٍ وساحة، وكيف استطاع -برفقة إخوانه- أن ينقلوا المعركة إلى قلب الأراضي المحتلة في "طوفان الأقصى"، ومرغوا أنف هذا العدو المجرم، بسلاحٍ من صنع أيديهم، وخاضوا المعارك الجليلة، وسط حصار، وتواطؤ، وغدر.

يقول أحد كبار المفكرين الإسلاميين بأنّ "سنة الله تعالى، أن من يحمل السلاح هو الذي يسود، وهو الذي يقود"، لن يقود الضيف بنفسه فسوف يبلغ زرعه مداه (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)، فدمه صار بذرةً أخرى في رحم هذه الأرض الولّادة، سينبت آلاف المجاهدين الآخرين، من أبناء هذا الأديم. وقد كانت آخر كلماتٍ سمعناها منه رحمه الله: "كما أنتِ هنا مزروع أنا، ولي في هذه الأرض آلاف البذور، ومهما حاول الطغاة قلعنا، ستنبت البذور. أنا هنا في أرضي الحبيبة الكثيرة العطاء، ومثلها عطاؤنا يواصل الطريق ولا يخطئ المسير".

وكما قال شهداؤنا البررة أبو العبد وأبو إبراهيم، وآلاف المجاهدين في غزة وكل مكان:

"حط السيف قبال السيف.. سنظلّ رجال محمد ضيف”.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة