علي عزت بيجوفيتش يكتشف العلاقة بين الصيام والحرية

هناك الكثير من المعاني التي يمكن أن تفتح لنا آفاقاً جديدة لاكتشاف جمال نِعَم الله علينا ومنها الصيام؛ وتدفعنا للتفكير في تقديم الإسلام إلي الإنسانية ليبني مستقبلها على أسس جديدة أهمها الحرية والعدل؛ فعندما ترى الأمة هلال رمضان ينطلق الخطباء والدعاة يتحدثون عن فضل الصيام، وفوائده ونتائجه الإيجابية على صحة الإنسان الجسدية والنفسية.

لكن العالم الأديب القائد علي عزت بيجوفيتش زعيم البوسنة والهرسك يقدم لنا رؤية جديدة يمكن أن تسهم في ترشيد كفاحنا؛ وإعداد الأمة لمرحلة جديدة تقوم فيها بوظيفتها الحضارية في تحرير البشرية من العبودية لغير الله.

نصر الروح على الجسد

في السنوات التي قضاها المفكر والأديب الإسلامي علي عزت بيجوفيتش في سجن فوتشا الرهيب، اكتشف معاني جديدة للصيام؛ فهو يعرفه بأنه أوضح محاولة لسيطرة الروح على الجسد، وهو الذي يحافظ على هذا النصر ويحميه، ويمكننا أن نبحث في الصوم عن فوائد أخرى؛ لكن انتصار الروح على الجسد، وسمو الروح أول وأهم معاني الصيام.

لذلك فتح له الصيام في سجنه أبواب الحرية والحكمة والمعرفة واكتشاف الحقائق، لكن أول تجليات الحكمة أنه يصوم إثباتاً لاستقامته الإنسانية في الأيام والأحداث التي كان فيها كل شيء يهدد استقامته.

اكتشف الرضا وليس العذاب

يضيف بيجوفيتش: إن الصوم تعايش غير مباشر لمعركة بين الروح والجسد؛ ففي الصيام يتعذب الجسد الذي يطلب ولا يجد، والروح هي التي توعز بهذا العذاب؛ فتنتصر الروح على الجسد، وهو انتصار صعب لكنه جميل؛ فإذا مر الإنسان بتجربة الصوم بهذه الطريقة؛ فإنه سيجد الرضا وليس العذاب فقط.

إن الصيام ليس مجرد عبادة بدنية يمتنع فيها المسلم عبادة لله عن الطعام والشراب فقط؛ لكنه أيضاً تجربة إنسانية راقية؛ لذلك أشار في كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب» إلى أن الصيام يعبر عن قدرة الإنسان على السيطرة على رغباته؛ وهو ما يجعله مختلفاً عن الكائنات الأخرى التي تخضع للغرائز.

هكذا يصوم المسلم عبادة لربه وتقرباً وطاعة له؛ ويثبت أنه ليس عبداً لشهواته؛ فالصيام تجربة للتحرر من هيمنة الجسد.

الحرية تبدأ من داخل الإنسان

بذلك يكتشف بيجوفيتش العلاقة بين الصيام والحرية؛ فالحرية الحقيقية تبدأ من الداخل؛ وهو وسيلة تساعد الإنسان على تحقيق هذه الحرية من خلال تدريب النفس على الإرادة وضبط الذات، وبالصيام يقوم المسلم بتمرين نفسه على التقوى والانضباط الذاتي؛ وهذا ينعكس على سلوك الفرد في الحياة اليومية.

ويشكل ذلك جانباً من رؤية بيجوفيتش للعبادات الإسلامية كلها؛ فهي ليست مجرد طقوس؛ لكنها وسائل لتطوير الإنسان؛ روحياً وأخلاقياً.

لكي تكون حراً!

في كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب»، يقدم بيجوفيتش حقيقة مهمة؛ هي أن الإنسان الذي لا يستطيع أن يصوم هو إنسان لا يستطيع أن يكون حراً؛ فالحرية الحقيقية تبدأ من قدرة الإنسان على ضبط رغباته؛ لذلك فإن الصيام تمرين لنفس الإنسان على الحرية.

والصوم هو التعبير المادي عن الإرادة؛ والإرادة هي أساس الحرية؛ فعندما نصوم نثبت أننا لسنا عبيداً لحاجاتنا الفسيولوجية، وأننا قادرون على التحكم في أنفسنا، وهذا هو جوهر الحرية.

يضيف بيجوفيتش: في المجتمعات الاستهلاكية يصبح الإنسان عبداً لرغباته؛ يخضع لما تفرضه عليه الأسواق والإعلانات، والصيام تمرين للإنسان على التحرر من هذا الاستعباد، وهو رسالة بأن الإنسان يمكنه أن يقول: لا لرغباته، كما يمكنه أن يقول: لا للظلم والاستبداد.

مقاومة العبودية الحديثة

يربط بيجوفيتش بين الصيام ومقاومة العبودية الحديثة التي تفرضها النزعة الاستهلاكية، وهو لذلك ليس مجرد تجربة روحية، بل هو أيضاً وسيلة لمقاومة السيطرة الخارجية على الإنسان، وهكذا يحرر الإسلام الإنسان، ويدربه بالصيام على أن يكون حراً قادراً على اتخاذ قراراته دون الخضوع لغرائزه أو لضغوط المجتمع.

وفي سياق نقده للهيمنة الثقافية والحضارية الغربية؛ يربط بيجوفيتش الصيام بالتحرر من السيطرة الغربية والاستعباد المادي والنفسي الذي تفرضه الحضارة الغربية على الإنسان؛ فبالرغم من الإنجازات المادية التي قدمتها هذه الحضارة، فإنها حولت الإنسان إلى عبد لرغباته من خلال النزعة الاستهلاكية، وقامت بالتلاعب به باستخدام الإعلانات والثقافة المادية؛ لذلك يحرر الصيام الإنسان من هذه العبودية، ويعلمه أن يتحكم في نفسه بدلاً من أن تتحكم فيه الرأسمالية.

الصيام.. والاستقلال الفكري

يرى بيجوفيتش أن الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي لا تقتصر على السياسة والاقتصاد فقط؛ بل امتدت إلى الثقافة والفكر؛ مما جعل الكثير من المسلمين يفقدون ثقتهم في أنفسهم ويتبعون النموذج الغربي، لكن الصيام يجعل الإنسان المسلم يستعيد هويته واستقلاله الفكري كعبد لله وحده، ويرفض العبودية لأحد سواه، وهو يدرك وهو صائم صفاته المميزة له كمسلم، فهو لا يركز على جسده، ويستطيع تحقيق التوازن بين روحه وجسده؛ وهذا يمنحه استقلالية داخلية تجعله أقل خضوعاً للتأثيرات الخارجية.

الصيام.. والمقاومة الحضارية

يرى بيجوفيتش أن الصيام ليس فقط امتناعاً عن الطعام والشراب، بل هو إعلان لحرية الإنسان، ورفض الاستعباد الذي تفرضه الحضارة الاستهلاكية الحديثة، فهو يذكره بأن تحرره الحقيقي يبدأ من داخله؛ وبذلك يتحول الصيام لمقاومة حضارية؛ حيث يساعد المسلم على استعادة وعيه بذاته؛ ما يجعله أكثر قدرة على مواجهة الغزو الثقافي الغربي.

كما أن الصيام وسيلة لتهذيب النفس وتعزيز القيم الأخلاقية، ويساعد الإنسان على الارتقاء الأخلاقي، فهو يجعل الإنسان يكبح شهواته ورغباته، ويجعله أكثر قدرة على التحكم في سلوكه وأفعاله، وهذا هو جوهر الأخلاق، كما يعلمه الصبر وتحمل المشقة طواعية، وهذا ينعكس على أخلاقه في حياته اليومية، فيصبح أكثر تواضعاً ورحمة بالآخرين.

والصيام يحرر الإنسان من الأنانية والفردية والمادية، ويساعده على تطوير منظومة أخلاقية تقوم على الإيثار والتضحية وحب العدل والتعاطف مع الآخرين والمساواة.

لذلك، يرى بيجوفيتش أن الصيام ليس فقط مقاومة الجوع؛ لكنه أيضاً مقاومة الرغبات الجامحة، وهي أكبر مفسد للأخلاق؛ وعندما يصوم الإنسان فإنه يتعلم كيف يكون سيد نفسه، وعندما يكون سيد نفسه؛ فإنه يكون أكثر قدرة على العيش وفق المبادئ الأخلاقية، وبذلك يقدم الإسلام الصيام للبشرية ليعلم الإنسان كيف يتحكم في نفسه؛ وكيف يكون أكثر صبراً وتواضعاً ورحمة، وهي القيم الأساسية للأخلاق في أي مجتمع.

لكن الصيام أيضاً يعلمنا كيف يمكن أن نقاطع منتجات الأعداء الذين ينهبون أموالنا ليحولوها إلى أسلحة يدمرون بها مدننا ويقتلون بها أهلنا في غزة، ويتحكمون بها في إرادتنا؛ فهل نتعلم كيف نقاوم ونحرر أنفسنا من العبودية لغير الله الذي نصوم طاعة وعبادة وحباً له.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة