قواعد الأسماء والصفات ومدارج لا تحصى من العبودية
العلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا أصل الأصول، وكل ما أنزله الله تعالى في دينه مهما كثُر وتنوَّع فهو دائر حول هذا الأصل، وإن الله سبحانه قد أنزل علينا الكتاب والحكمة ليزكي قلوبنا، ولا أضر على القلب من التعامل الجاف مع ما عرَّفنا به، وكما أن ذلك حاصل مع ظواهر النصوص الشرعية، فهو كذلك حاصل مع بواطنها من معرفة أحكامها وقواعدها وأسرارها.
ومن ذلك؛ فهذا المقال لا يتكلم عن الآثار الإيمانية من معرفة الأسماء الحسنى والصفات العلا، ولا عن القواعد التي قعَّدها أهل العلم بشأن أدلة تعيين الأسماء ومعانيها، والصفات وتحققاتها، وما هو من ذلك؛ ولكنه يتناول الآثار الإيمانية والدلالات التعبدية المستقاة من ذات هذه القواعد، وهو باب جليل قلّ أن يُطرق، فنسأل الله التوفيق.
قواعد في أدلة الأسماء والصفات
- «الأدلة التي تثبت بها أسماء الله هي الكتاب والسُّنة لا غير»، فلا سبيل إلى معرفة أسماء الله إلا منه سبحانه، وهذه القاعدة تُظهر أن علوم الناس تقصر عن الوصول إلى ما يجب عليهم أن يعرفوه؛ فلا غنى لهم عن الله، ولا سبيل لأفهامهم مجردة أن تبلغ هذا المراد، وهذا مما يورث الذلة والانكسار أمام الرب العليم الخبير.
- «يجب إجراء نصوص القرآن والسُّنة بشأن الصفات على ظواهرها»، فإن المتكلم بها -وهو الله جل شأنه- هو العليم بمراده منها، وأنزل كتابه (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) (الشعراء: 195)، فلا سبيل إلى صرفها عن ظاهرها إلا بقرينة، ولا قرينة، فليس إلا إمرارها على ظواهرها كما اعتقد سلف الأمة الصالح، وبهذا يبعد القلب عن إثم تحريف الألفاظ وتعطيل المعاني؛ فتصفو مشاربه، ويُزهر الإيمان فيه نقيًا لا تشوبه شوائب الشبهات.
- «ظواهر نصوص الصفات معلومة المعاني مجهولة الكيف»، فإن عِلْم الله بعباده ورحمته بهم اقتضت أن يعرِّفنا بمعاني الأسماء والصفات دون كيفيتها، فأما المعاني فلكي نتعبده سبحانه بها، وأما الكيف فلا نقدر على تصوره؛ فلم يكلفنا به، وتحقيق هذا يورث القلب الرضا عن الله والتسليم بحكمته سبحانه.
- «ظواهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني»، فإن الله عز وجل خبير بعباده، خاطبهم بكلام يفهمونه، فلا يستحيل على أفهامهم قبوله، ولا يمكن لها رده بدعاوى لا تليق به سبحانه، ومن آثار ذلك أن ينتقل العبد من جهة العلم إلى جهة العمل التعبدي بالأسماء والصفات مباشرة بدون أدنى وساطة.
قواعد في الأسماء الحسنى
- «أسماء الله تعالى كلها حسنى»، كما سماها فقال: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الأعراف: 180)، فقد بلغت الغاية في الحسن، والكمال الذي لا نقص فيه، ومن آثار ذلك استشعار العبد في جميع الأسماء أسمى معاني الجمال والجلال، فيسعد بدعاء الله بها كلها دون استثناء، ويتحرك قلبه حبًا ورجاء وخوفًا من آثار ذلك عليه.
- «أسماء الله تعالى أعلام باعتبار دلالتها على الذات الإلهية، وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من صفات»، فكلها مساوية باعتبار أنها أسماء لله، قال تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ) (الإسراء: 110)، وهي متمايزة باعتبار معانيها، فالرحيم ذو الرحمة، والقوي ذو القوة، وهكذا، وثمرة ذلك على العبد عظيمة، فما قد يمر به في حياته سيجد من أسماء ربه الواحد ما يدعوه به، فإن أذنب فليدع باسم الله الغفور أن يغفر له، وإن ضاق به الحال فليدع باسم الله الواسع أن يوسع عليه، وهكذا، وكلٌ دعاء لله تباركت أسماؤه.
- «أسماء الله تعالى لا يُعيَّن لها عدد»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه: («أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك» (رواه أحمد، وابن حبان، والطبراني، وصححه الألباني)، فإن عظمة الله اقتضت ألا يحيط بشر بجميع أسمائه، فاقتضى ذلك التسليم بكمال علمه وعدم إحاطة البشر به سبحانه؛ (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) (طه: 110)، وذلك مما يرغب النفس إلى تعلم أسماء الله، حتى تترقى في مقامات عبودية الدعاء بها، وهذا لا يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إلَّا واحِدًا، مَن أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» (رواه البخاري، ومسلم)، فإن من هذه الأسماء الكثيرة 99 اسمًا رُتب على إحصائهم هذا الثواب العظيم، وإحصاؤها هو علمها والدعاء بها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
- «الإلحاد في أسماء الله تعالى هو الميل فيها عما يجب»، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف: 180)، فالغيرة على أسماء الله واحتقار من ألحد فيها محركة للمؤمن ألا يميل مع من مالوا فحرفوا هذه الأسماء أو أنكروها أو سموا بها غيره سبحانه، ويا ويل من ارتكب ذلك الجرم المردي!
قواعد في الصفات العلا
- «صفات الله تعالى كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه»، وإن في فطرة الإنسان ألا يقبل العبودية إلا لمن اعتقد فيه الكمال، فكلما علم المرء شيئًا من صفات الله ازدادت نفسه من تكبيره وتعظيمه عز وجل، وظهرت للعبد حقيقة نقص نفسه، التي لا خيار له معها سوى الخضوع للرب سبحانه.
- «باب الصفات أوسع من باب الأسماء»، فإن الأسماء وإن كانت متضمنة للصفات فإنها أوصاف مطلقة في حق الله جل شأنه، وأما الصفات فمنها ما يتعلق بأفعال الله؛ وهي كثيرة لا يحصيها المحصون، وبالتالي فإنه يوجد بشأنها أبواب من التعبد لا حصر لها، فمن يعلم أن الله يمسك السماء أن تقع على الأرض؛ وقرت في نفسه قيوميته سبحانه، ومن يعلم أن الله يمكر بالكافرين وقرت في نفسه عزته سبحانه، وهكذا.
- «صفات الله تعالى قسمان.. ثبوتية وسلبية»، وكلاهما كمال في حقه جل شأنه، فكل ما أثبته لنفسه فهو كمال لا نقص فيه، وكل ما نفاه عن نفسه فهو نقص تنزَّه عنه تبارك وتعالى، وإن نفس الإنسان لا تقبل المدح إلا مقترنًا بنفي الذم، ولا الكمال إلا مقترنًا بنفي النقص، وربنا جل ذكره كما أنه: (لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) فهو الذي: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ) (البقرة: 255)، وهذا باب واسع يلجه المتعبدون، فقدر عظيم من فهم كمال صفات الله مدخله فهم النقص الذي تنزه عنه سبحانه.
- «معرفة صفات الله تعالى توقيفية، فلا مجال للأفهام أن تثبتها من عندها»، وفي تحقيق هذا تحقيق لمنتهى الاستسلام لله والخضوع له سبحانه، فمهما بلغ فهم الإنسان فله حد يقف عنده، وليس له أن يعرف الله إلا بما عرَّفه سبحانه به، فضلًا عن أن يُلفِّق دينًا أو يُنشئ أحكامًا، وإن وقف عند هذا فقد حقق العبودية لربه حقًا.
______________________
1- اعتمدنا فيما ذكرنا من قواعد على الرسالة التدمرية والفتوى الحموية لابن تيمية، وبدائع الفوائد ومدارج السالكين لابن القيم، والقواعد المثلى وشرحها لابن عثيمين.
2- استنبط عدد من العلماء قواعد أخرى زائدة على ما ذكرنا لم نوردها خشية الإطالة، وفي جميعها مدارج عظيمة للعبودية لمن تدبرها.