كيف كان يتعبد السلف الصالح في رمضان؟

كان السلف
الصالح يدركون عظمة شهر رمضان، فلم يكن يمر عليهم كغيره من الشهور، بل كان شهرًا
إذا أقبل استقبلوه كأحسن ما يكون استقبال المقيم للضيف الذي ينزل به، فيكرمونه
بالاستكثار من شتى أنواع العبادات استكثارًا يربو على عادتهم طوال العام، وإذا
أدبر ودعوه خشية ألا يدركهم من قابل،
كان رمضان
بالنسبة لهم موسمًا لا يُفوت، وميدانًا يتسابقون فيه نحو الله، ولكل واحد منهم
طريقته الخاصة في التعبد، الذي من منه وكرمه أن جعل طرق الوصول إليه بعدد أنفاس
الخلائق.
في هذا المقال،
سنتناول كيف كان السلف يتعبدون في رمضان علّنا بذلك نقتبس مشكاة من نور هداهم،
نستنير بها في رمضاناتنا التي طغت فيها أنوار الزينة على أنوار القلوب.
الاستعداد
لرمضان قبل دخوله
لم يكن السلف
ينتظرون رمضان ليبدؤوا العبادة، بل كانوا يستعدون له قبل أشهر من قدومه، كان
معاوية بن قرة من التابعين يقول: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم
يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم.
ومن العجيب في رمضان
أن نسماته إذا هبت وزاد أهل الصالحات فيه أعمالهم، انتهى أهل المعاصي فيه عن
معاصيهم.
وقد ورد عن
الإمام مالك بن أنس أنه قال: بلغني أن الفُسّاق كانوا إذا جاء رمضان كفّوا عن كثير
من المعاصي.
وهذا يدل على أن
لرمضان تأثيرًا خاصًا على النفوس، حتى على أولئك الذين لا يلتزمون عادة بالطاعات،
فيمتنعون عن بعض الذنوب إجلالًا لهذا الشهر، وخوفًا من انتهاك حرمته.
كما ورد عن بعض
السلف أنهم كانوا يقولون: إذا دخل رمضان، قال أهل المعاصي: هذا شهر العفو، فكفّوا
عن كثير من الشر.
رمضان
شهر العطاء
روى الإمام أحمد
في مسنده عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «أجود الناس، وكان
أجود ما يكون في رمضان، حين يلقى جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان،
فيدارسه القرآن»، قال: «فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح
المرسلة»، ولما كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا أسوة حسنة، كان السلف
الصالح رضي الله عنهم حريصين على الاقتداء به.
فكان الإمام
الزهري يقول عن رمضان: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام، وكان يرى أن إفطار
الصائمين من أعظم القربات في رمضان.
ومما رُوي عن
عطايا السلف الصالح في غير رمضان مما تحار له العقول ما رواه الإمام ابن حجر
العسقلاني في مصنفه المرحمة الغيثية بالترجمة الليثية: كَانَ دَخْلُ اللَّيْثِ فِي
كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
دِرْهَمًا قَطُّ بِزَكَاةٍ، وهذه القصة مروية بالأسانيد المتصلة إلى الليث نفسه.
التنافس
في عدد الختمات
كان القرآن
الكريم شغل السلف الشاغل في شهر رمضان.
وقد ذكر الإمام
النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن عدد ختمات بعض من السلف أنقل بعضًا
منها هنا على سبيل الاقتداء وحث الهمم.
- عثمان بن عفان
رضي الله عنه، وتميم الداري، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشافعي، وآخرون: من الذين
كانوا يختمون ختمة في الليل واليوم.
- سليم بن عمر:
قاضي مصر في خلافة معاوية، كان يختم 3 ختمات في اليوم والليلة.
- ابن الكاتب:
يختم بالنهار 4 ختمات وبالليل 4 ختمات، وهذا أكثر ما بلغنا من الختمات في اليوم
والليلة.
وليس القصد من
ذكر هذه الأمثلة هو القول إما بالاستحالة مطلقًا وإما بالاستحالة في زماننا، وإنما
ليدرك كل واحد منا حقيقة عبارة الموفق من وفقه الله، فينبغي علينا التشمير عن
سواعد الجد، وأن نُري الله من أنفسنا خيرًا، حتى وإن لم ندرك مراتب السلف فلا أقل
من أن نقفو آثارهم ونسير على خطاهم عسى أن يشملنا الله برحمته فندرك طرفًا من
بركتهم.
قيام
الليل والتراويح
كان الإمام أحمد
بن حنبل لا يترك قيام الليل في رمضان ولا في غيره، وكان يبكي إذا تذكر أن سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن رمضان: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر
له ما تقدم من ذنبه».
وكان السلف
يصلون في رمضان التراويح 20 ركعة، كما روى الإمام مالك في «موطأه» في كتاب الصلاة
في رمضان: عن مالك، عن يزيد بن رومان أنه قال: «كان الناس يقومون في زمان عمر بن
الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة».
دروس
من السلف لإحياء رمضان اليوم
نحن اليوم نعيش
في زمن مليء بالمشاغل والملهيات، لكن بإمكاننا أن نحيي روح رمضان كما فعل السلف،
من خلال بعض الأمور:
1- الاستعداد
لرمضان مبكرًا، بوضع خطة لعباداتنا وأعمال الخير.
2- ألا يقتصر
صيامنا على الإمساك عن المفطرات، بل وكل سوء من القول والعمل.
3- الالتزام
بقيام الليل وعدم ترك صلاة التراويح.
4- تخصيص وقت
يومي لتلاوة القرآن ولو جزء بسيط.
5- الحرص على
الإحسان والكرم، سواء بإفطار الصائمين أو التصدق على المحتاجين.
6- الاعتكاف ولو
ليوم واحد في العشر الأواخر، للتفرغ للعبادة والخلوة مع الله.
رمضان فرصة لا
تتكرر كثيرًا، ومن يقتدي بالسلف الصالح، يجد خيرًا كثيرًا، فلنحرص جميعًا على
اغتنامه كما فعلوا، ليكون رمضان هذا العام نقطة تحول في علاقتنا بالله.
ولنحذر ألا
تصيبنا دعوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغِمَ أَنفُ (خاب وخسِر) رجلٍ
ذُكِرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضانُ ثمَّ انسلخَ
قبل أن يُغفَرَ له، ورغمَ أنفُ رجلٍ أدرَكَ عندَه أبواهُ الكِبَر فلم يُدْخِلاهُ
الجنة».