كيف يكون تجديد الشعور بالإيمان عمليًّا؟

ترى، ما وجه التجديد في التعبد إذا كانت أنواع العبادات وشعائر الديانة لا تتغير؟

وجه التجديد فيك أنت ومن عندك أنت: في شعورك، ونيّتك، وتصوّرك للعبادة في كلّ مرة تُقبِل عليها فيها.

فالصلاة، مثلًا، صورتها واحدة لكن تصوّر المصلّي لها حين يَهُمُّ بالدخول فيها، وإحساسه بها أثناء أدائها، وحرصه على صَوْنِ ثوابها بعد الفراغ منها، كلّ هذا هو القابل للتجديد بالتفكّر والاستحضار. وهذان مكمن الفارق بين صلاة اثنين في نفس الصفّ: "الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها فحسب، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، والرجلان يكون مقامهما في الصفّ واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض"(ابن القيّم، مدارج السالكين).

وبذلُ الجهد في التجديد مطلوب في كلّ العلاقات ممتدّة الأمد، التي لا يُتاح استبدال أطرافها، ولا يكون فَصمُها هو الحَلّ للملل فيها أو منها! وإنّما المطلوب وقتها تجديد عمق شعورنا نحن وسعة إدراكنا لنفس الأصول، لا قلع الأصول من جذورها! خذ مثلًا وصف مصطفى صادق الرافعي، رحمه الله للوضوء، الذي ننظر له على أنه عملية طهارة لازمة استعدادًا لأداء فرض الصلاة بصب الماء على أعضاء معيّنة، بينما ينظر هو له بوصفه غسل الإنسان لآثار الدنيا عن روحه وأعضائه مًعا، قبل العروج للسماوات.

شعائر الإيمان ومعاني التضحية والإحسان



تأمل في هذه الصورة البديعة التي يرسمها مصطفى صادق الرافعي في "وحي القلم":

"إذا قُمتَ إلى وضوئك، فأيقن في نفسك واعزم في خاطرك على أنّ في هذا الماء سرًّا روحانيًّا من أسرار الغيب والحياة، وأنه رمز للسماء عندك. وأنك إنما تتطهر به من ظلمات نفسك التي امتدت على أطرافك. ثم سَمِّ الله تعالى، مفيضًا اسمه القادر الكريم على الماء وعلى نفسك معًـا، ثم تمثّل أنك غسلت يديك مما فيهما ومما تتعاطاه بهما من أعمال الدنيا، وأنك آخذ فيهما من السماء لوجهك وأعضائك. وقرر عند نفسك أنّ الوضوء ليس شيئًا إلا مسحة سماوية تُسبغها على كل أطرافك، ليشعر بها جسمك وعقلك. وأنك بهذه المسحة السماوية تستقبل الله في صلاتك سماويًا لا أرضيًا.

إذا أنت استشعرتَ هذا وعملتَ عليه وصار عادة لك، فإنّ الوضوء حينئذ ينزل من النفس منزلة الدواء، كلما اغتممت أو تسخطت أو غَشِيَك حزن أو عَرَض لك وَسْوَاس، فما تتوضأ على تلك النيّة إلا غسلتَ الحياة وغسلتَ الساعة التي أنت فيها من الحياة. وترى الماء تحسبه هدوءًا ليّنًا لِين الرّضى، وإذا هو ينساب في شعورك وفي أحوالك جميعًا. 

وإذا الوضوء في أضعف معانيه هو ما عَلِمنا من أنه الطهارة والنظافة، أما في أقوى معانيه فهو إفاضة من السماء، فيها التقديس والتزكية، وغسل الوقت الإنساني مما يخالطه كلما مرّت ساعات، وابتداؤه للروح كالنبات الأخضر ناضرًا مطوّلًا مترطّبًا بالماء".

 «إن الإيمان ليَخلَقُ في جوف أحدكم».. فكيف نجدده؟

وقُلْ مثل ذلك عن الشهادتين اللتين تمثّلان صياغة للوجود الكوني والبشري، وإسلام وجهة الحياة شَطْرَ وجه الله، وليستا محض كلمات يرددها لسان لا عقل له ولا قلب. ومثل ذلك عن الزكاة بوصفها تزكيةً حقيقية للنفس وتطهيرًا لها من آفات الشُّحِّ والأَثَرَة، قبل أن تكون تزكية للمال أو مواساة للفقراء، لا أنها انتقاص من كَدِّ صاحبها لتوزيعه بالمجَّان على من لا يستحق! والصيام رياضة روحية لمداواة أهواء النفس وشهواتها، قبل أن يكون تجويعًا وحِرمانًا وتشبهًا بالمساكين! والحجّ نموذج مصغّر لعروج الأمة زُمَرًا وفُرادَى من كلّ فَجٍّ عميق إلى الله الواحد، قبل أن يكون شعيرة تقليدية ومنسكًا صوريًّا ونزهة سياحية!

وأما الذكر فهو ليس مجرد "حركة اللسان في الفم، ولا فرقعة السبحة في اليد، ولا مجرد القفز على أصوات المنشدين وأنغامهم. وإنما نقصد به ما أراده الله تعالى في كتابه عندما أمر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، وما يَعلَمه كل عالم باللغة العربية عندما يقول القائل: لقد ذكرتُ فلاناً طوال هذا اليوم.

إنه ذكر القلب، وحركة الفكر، وتيقظ الوجدان. وإن كان لحركة اللسان من فائدة، فإنما هي تنبيه القلب وإيقاظ الوجدان، وحجزه عن الأحاديث المُلهية التي قد يشتغل بها إن هو فتر عن ذكر الله تعالى. أمّا إن ضُرب بين اللسان والقلب بحاجز، حتى أصبح اللسان يلهج بالذكر والدعاء والتسبيح، والقلب غارق في الدنيا وأحلامها وأهوائها المحرمة، فإن صاحب هذه الحال لا يسمى ذاكرًا ولا متعبدًا، وإنما هو يظهر بين الناس بمظهر الذاكرين. وليس له من فائدة أكثر من أنه يجعله بين الناس كذلك!" (البوطي، باطن الإثم).

شحن الإيمان!

التنويع في العبادات

من خير المُعينات على تجديد وجدان الإيمان التنويع في العبادات الشرعية، على 3 مستويات، مع التنويه على ضرورة العلم بالدين حتى لا يبتدع المسلم باسم الشرع ما لا يُقبَل منه في الشرع!

1. التنويع بين العبادات نفسها:

كالصلاة والصيام والصدقة وطلب العلم وإغاثة الملهوف وبرّ الأهل وإكرام الضيف والدعوة والتعليم... إلخ.

2. التنويع في أشكـال ممارسة ذات العبادة:

صلاة النافلة مثلًا لها عدة أنواع (الرواتب، القيام، الضحى، الاستخارة، التسابيح...)؛ صيام التطوع (يوم في الشهر، يوم بعد يوم، الأيام البيض، الاثنين والخميس...)؛ الإحسان للخلق (قضاء حوائج مادية أو معنوية، إطعام أو كسوة مسكين، قضاء دَيْن، إدخال السرور، توزيع مصاحف وكتب في بيوت الله وأماكن التجمع، سقي الماء...)؛ ختم القرآن (سماعًا لشيخ معيّن أو لعدد من المشايخ، بدل اعتياد التلاوة شكلًا وحيدًا للختم؛ أو باجتماع الأسرة لتلاوة جزء أو حزب بحيث يتلو كل فرد صفحة بالتناوب؛ أو بالصلاة بسورة تمّ حفظها ومطالعة تفسيرها عِوضًا عن التكرار الأصمّ لقصار السور، والتلاوة جهرًا في قيام الليل بدل الإسرار)... وهكذا.

3. تنويع موارد التذكـرة وروافـدها:

في عصرنا اليوم من وسائل التذكرة ومواردها ما لا يعود لأحد معها حجّة: مقاطع الفيديو القصيرة، المحاضرات المسموعة، الكتب والكتيبات، الصفحات الهادفة على مواقع التواصل الاجتماعي، تطبيقات الاقتباسات والخواطر اليومية، الخروجات والنزهات في ظلّ الطبيعة أو المعالم التاريخيّة... إلخ. ويمكن أن تجهّز مُسبقًا لكلّ رافد قائِمةَ مصادر له، تكون حاضرة للاختيار المباشر منها، كسلاسل مسموعة أو مرئية بحسب الموضوعات أو المحاضرين، صفحات ومواقع مصنّفة في مجلدات في مُفَضَّلتك، أماكن مقترحة للزيارة، قائمة قراءات.. إلخ.

 "إنّ مع كل مؤمن شيطانه يتربّص به، فلهذا ينبغي للمؤمن أن يكون في كل ساعة كالذي يشعر أنه لم يؤمن إلا منذ ساعة، فهو أبدًا محترس متهيئ، متجدد الحوّاس مرهفها، يستقبل بها الدنيا جديدة على نفسه بين الفترة والفترة. ومن هذا حكمة أن يؤذن المؤذن وأن تقام الصلاة مرارًا في اليوم، فكلما بدأ وقت صلاة قال المؤمن: الآن أبدأ إيماني أطهر ما كان وأقوى" (الرافعي، وحي القلم).

 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة