قيم الشريعة بين التنظير والممارسة في رمضان

ونحن في ظل الشهر الكريم لا تزال تنثال من حولنا المواعظ المحفزة لاهتبال الفرص في الشهر الفضيل، كثيرون هم الذين رفعوا شعار: "حصريا"، قنوات رفعتها لافتة ضخمة تفخر باختصاصها بعمل فني، مواقع، ومنصات إلكترونية كذلك.

الشعار نفسه رفعته بعض المساجد، فصار شعار "حصريا" هو الشعار المشترك بين من يسلك سبيل الهدى، ومن يسلك سلوك الردى.

والشعار نفسه رفعه بعض الأفراد، فلطالما أنَّبوا أنفسهم على تضييع الوقت طول العام وآن أن يكون الشهر فرصة للعودة إلى سواء السبيل.

حين يكون حظ الصائم من رمضان أن يتحرى صيانة حلقه من نقطة ماء تصله بين الفجر والمغرب، ثم لا يراعي ما وراء ذلك، فلا تغير من سلوكه شيء، ولا زادت عباداته فيه، ولا استقامت أخلاقه، فهذا لا حظ له من صيامه إلا جوعه وعطشه، حتى ولو لم يصب بالجوع والعطش، فحظه حرمان ألزم نفسه به بلا طائل يأمله أو يرجوه.

القيم الإسلامية في ظل العالم الرقمي.. تحديات وفرص



مواعظ تلامس القلوب

لا تزال الكلمات الداعية إلى اهتبال الفرص تطرق الأسماع، ولا يزال المذكرون في كل غادية يستحثون العبّاد إلى سلوك طريق الله، ويحذرونهم من الانقلاب على الأعقاب، ولا تزال كلمات: ملتفت في طريق الله لا يصل، هي الوقود الذي يستحث أهل الفتور.

كثيرون يتركون العبادة لفقد الشعور بلذتها، وكثيرون يعرضون عن القرآن بحجة أنهم لا يحضرون بقلوبهم أثناء تلاوته، فيتركون الذكر لعدم حضور القلب، يقول ابن عطاء الله معالجا ذلك: "لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه؛ لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة، إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غيبة عما سوى

 وما ذلك على الله بعزيز.   [1]المذكور"

إن الذكر هنا صورة لكل عمل يعمله المرء، ويرجو الله ثم يتقهقر؛ لأنه لا يجد فيه ما أمَّل.

القيم.. بين المشروع الإسلامي والنظام العالمي



فتور لا يليق

كثيرون هم الذين ملّوا من الدعاء وتركوه، لفقد ما أمّلوا منه على الفور، وما علموا أن المحب لا يمل محبوبه، وهو يحبه لذاته لا لأغراضه منه، والدعاء كالشجرة، تحتاج لرعاية وصبر، فربما أثمرت بعد أجيال فنفع الله بها خلقا يثقلون الميزان.

كم من داع للمجاهدين والمكلومين، ثم ترك الدعاء، بعد زيادة الجراح! وكم من راج للشفاء ترك الدعاء بعد زيادة العلة، وما علم أن الإجابة إن تخلفت ، فقد ثبت أجر الافتقار لله والطلب منه وحده، فلا يعدم الداعي خيرا أبدا؛ لأن الدعاء هو العبادة كما في حديث النعمان بن بشير- رضي الله عنه[2]. وانظر لما تخلل آيات الصيام وقطع تراسلها، من قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة:186)

ثم انظر كيف أثنى الله في كتابه على الداعين المتفكرين في خلق السماوات والأرض، وأجاب دعاءهم: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) (آل عمران:195).

ثم وصف عباد الرحمن تنظيرا وممارسة، وبعده دعاء يلامس عنان السماء، فكان الجزاء منه تعالى: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) (الفرقان:75).

أما نبي الله زكريا فاستجاب لدعائه ثم قال تعالى فيه وفي أهله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) (الأنبياء:90).

فالدعاء قاسم بين الجميع، وآيات القرآن كثيرة في فضل الدعاء، وكان الأنبياء يلازمونه في اليسر والعسر، ويا لخسار من تولى عنه.

منظومة القيم والثبات وقت النوازل



رمضان وضرورات لازمة

حين استنبط الأصوليون الضرورات الخمس في الشريعة، لم يسلم الحصر من النقد، بل تبرع بعضهم إشارة أو تصريحا بالزيادة عليها، فابن تيمية رحمه الله يضم ضرورة العدل لتشكل ضرورة مقاصدية من ضرورات الشريعة، وحديثا يضم الدكتور القرضاوي ضرورة الحرية.

والحق أن باب الحصر على خمس لم يسلم من النقد، وباب الزيادة عليها لم يتبوأ قوة الخمس، فبقي الباب مفتوحا للقول بانحصارها، أو الزيادة عليها.

لقد كان الحري بعلماء السلوك والتزكية أن يسلكوا سبيل علماء الأصول باستنباط الضرورات الكبرى للسلوك، التي تحفظ القيم، على غرار الضرورات الخمس المعتبرة في كل الملل.

 فإذا كنا نفترع بكارة هذا الباب، فإن ضرورة الرحمة هي من الضرورات التي يجب أن تتبوأ الضرورات الخمس في باب السلوك، بأن تكون سلوكا عاما في تصرفات المسلمين، خاصة في رمضان.

فرمضان هو شهر الرحمة، الرحمة التي تتجلى بتذكر نعم الله وآلائه، وتذكر المرضى والفقراء، والتضامن مع ذوي الحاجات، وإشغال النفس بقضاء حاجات ذوي العثار والإعسار، فالله تعالى في عون العبد ما كان في عون أخيه، وهو تعالى يتجاوز عن ذنوب الناس وتقصيرهم جراء عفوهم ورحمتهم بالمعسرين والموسرين، ففي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «مات رجل، فقيل له.. قال: كنت أبايع الناس، فأتجوز عن الموسر، وأخفف عن المعسر، فغفر له»[3] ، وفي الحديث الآخر: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه...» [4].

وفي الحديث الآخر سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: «أن تدخل على أخيك المؤمن المسلم سرورا، أو تقضي له دينا، أو تطعمه خبزا»[5].

إننا حقا نفتقد قيمة إدخال السرور على المسلم، ونفتقد كثيرا من أخلاق الرحمة التي تذيب جبالا من الخصومات، وتغلق أبوابا لا حصر لها من الشر، فهي تمثل نوعا من الدفع بالتي هي أحسن.

 

الرحمة في سياق ممارسات أهل العلم

إن باب الرحمة هو الباب الذي لا يحزن آله أبدا، لقد استن المحدثون أن يبدأوا التحديث  لطلاب العلم بالحديث المسلسل بالأولية، وهو: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»[6].

وهكذا تبدأ خطوات التعلم حتى ولو كانت مجرد سماع بحديث التذكير بالرحمة، والأمر بها.

وسلوك الصائم أولى بأن يتسم بالرحمة، فالصيام يدربه على ذلك عمليا، فلا بد أن تبرز أخلاق الرحمة ونحن نتعامل مع زحام صلاة العشاء والتراويح، ونحن نتعامل مع مصالح الناس قضاء إن كنا موظفين، أو نيلا إن كنا عملاء أو مواطنين.

 

القسوة ليست من أخلاق الكرام

إن الصيام أحد كوابح القسوة، وأحد دعائم لين النفس ورحمتها، و"القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة فهي أبدا إلى الصفح والحنان أدنى منها إلى الحفيظة والأضغان، إن القسوة في خلق إنسان دليل نقص كبير، وقد حذر الإسلام منها واعتبرها علة الفسق عن أمر الله، وسر الشرود عن صراطه المستقيم، (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16). وقد أمر الإسلام بالتراحم. وجعله من دلائل الإيمان"[7].

وهكذا تسير ممارسات الصائم على قدر ما يبلغ به رضوان الله.


(1) الحكم العطائية.

(2) صحيح، أخرجه أبو داود.

(3) أخرجه البخاري.

(4) أخرجه مسلم.

(5) قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا، وهو حديث حسن.

(6) معرفة أنواع علوم الحديث (ص: 380)

(7) الغزالي، خلق المسلم، ص187.

 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة