11 فبراير 2025

|

ليست كل الأحلام ممكنة ولن تقدر على كل شيء

من قال إنّ مجرد خطور الحلم على قلب حالم يعني قطعًا ويقينًا انبناء صلة وثيقة وارتباط خالد بينهما؟ إنّ الطموحات والأحلام مطامع مشروعة وليست نُبُوّاتٍ مكتوبة! والميل لمجال والرغبة فيه وإن كانتا عاملًا معتبًرا، لكنهما ليستا العامل الوحيد، فثمّة كذلك متطلبات المطلوب نفسه. أي أنّ كل مطمع تطمع فيه أو طموح تَطلُبه، يتطلَّب منك في المقابل مُتطلَّبات، إمّا أن تُوفَّق إليها وفيها فتَقدِر عليه، أو لا يكون ذلك لك مهما سعيت فيه. 

ومن قال إنّ المثابرة تعني الإصرار الأعمى على نفس الوجهة، بدل أن تكون العزم الأكيد على جوهر المسؤولية أينما توجّهت بصاحبها؟ لماذا يُقيِّد المسلم نفسه بتصوّرات هوائية تُعدّد الآلهة ثم تُوحِّد وجهة الإنسان في شغف ما، على إيمانه بتصوّر سماويّ يوحّد الإله ويعدّد في سبيله الوجهات والاهتمامات؟! فيم التضييق حيث جعل الله تعالى سَعَة، ولماذا التحجّر حين تَحسُن المرونة؟

ومن قال إنّ نتيجة السعي يجب أن تكون شيئًا غير ذات السعي أو خارجة عنه؟ أحيانًا ذاتُ السعي، أي ذات الرحلة التي تسلكها وذات الطريق الذي تسيره، بكلّ عثراته واكتشافاته وخبراته، هو عين الثمرة، ودروس التجربة هي النتيجة. ولا يُلقَّى تلك الثمار إلا ذو بصيرة لا تشغله الرؤية المستقبلية عن التيقظ لتفاصيل الحاضر. 

ليست كلُّ الأحلام ممكنة لكلِّ أَحَد، ولا كلّ أَحَد يقدر على كل شيء. ولا نقول إنه لا بأس في الإقرار بمحدوديّات الطاقات واختلاف القدرات وتفاوت البُعْد بين الحلم وصاحبه، بل نقول إنه لا بد من الإقرار بذلك! لأنّ ذلك من طبائع الوجود والموجودين. 

فما الإشكال في أن يحلم الحالم ويسعى في تحقيق حُلُمه، ليكتشف ببساطة أثناء الطريق أنه لا يقدر على متطلبات ذلك الحلم أو أنّ ذلك الطموح لا يصلح له؟ 

ودونك هذه القصة مثلًا:

  • بين وزير الملك ومَلّاحه

في إحدى أيام الصيف الحارة، كان الملك يقوم بجولة نهرية مع وزرائه، في القارب الملكي بقيادة مَلّاحه الخاص. حتى إذا قاربت الشمس على الاستواء في كبد السماء غفا الوزراء، في حين لم يكن الملاح بقادر على أخذ استراحة، إذ لم يكن هناك غيره ليجدّف. فما كان من الملاح إلا أن غمغم لنفسه متبرمًا: "انظر كيف ينامون وينعمون كما يشاؤون. لست أدري لمَ لا يعاونوني في التجديف. ألسنا كلنا بشرًا في النهاية؟ ألا يفترض أننا جميعًا قادرون على القيام بنفس الأعمال، ومساعدة أحدنا الآخر؟"

 تناهى لسمع الملك ما غمغم به الملاح لنفسه، لكنه لم يُعقِّب. ثم سَمِعا أصواتًا من جانب البحيرة، فأمر الملك الملاح بإيقاف القارب، وأرسله للبحث عن مصدر تلك الجَلَبة. بعد قليل، رجع الملاح، فسأله الملك: 

  • "ما تلك الجَلَبة؟"
  • فأجاب: "إنها بعض الجِرَاء يا مولاي".
  • فعاد الملك يسأل: "وكم عددهم؟"
  • لم يكن الملاح قد انتبه لذلك، فعاد أدراجه للجِراء ثم رجع وأخبـر الملك أنّ عددهم ستة.
  • فسأله الملك: "وما ألوانها؟" للمرة الثالثة، اضطر الملاح للعودة إلى الجراء، ثم رجع وأخبر الملك أنّ ألوانها أسود وأبيض وبني على التوالي.
  • فقال الملك: "يبدو أنها جِرَاء لطيفة. ترى هل هي ذكور أم إناث؟"
  • لم يتمكن الملاح من إجابة ذلك السؤال كذلك، حتى ذهب وتحقق. ثم عاد، وأخبر الملك أن أربعة منها ذكور، واثنتان إناث.

فأيقظ الملك عندها أحد وزرائه، وأرسله إلى مصدر الجَلَبة، كمـا فعل مع الملاح. ولما عاد، سأله الملك: 

  • "ماذا وجدت؟"
  • فأجاب: "إنها جراء حديثة الولادة، يا مولاي. عددها ستة، أربعة ذكور، واثنتان إناث".
  • فسأل الملك: "وما ألوانها؟"
  • أجاب الوزير: "واحد أبيض، وثلاثة سود، والبقية بنية اللون كأمّها". 

عندها التفت الملك إلى الملاح قائلًا:"عندما سألتكَ عن تلك الجلبة، توجب عليك التردّدُ على المكان أربع مرات، أما هذا الرجل فذهب مرة واحدة فحسب. هذه إحدى الأسباب التي جعلت منه وزيرًا بينما أنت ملاح. بعض الناس يجيدون النصح وتقديم المعلومات، وآخرون لا يحسنون سوى التجديف. أفهمت الآن؟"

ومنذ تلك اللحظة، لم يَعدِ الملاح يتذمر من عمله! [1]

 

***

لا تنظر لأهداف وضعها غيرك لك في الحياة على أنها أهداف يُلزِمُك بها، فإنما هي حياتك أنت وأنت ملزَم بها مسؤول عنها وعمّا تُحَمِّل نفسك فيها. لذلك لا تُلزِم نفسك ما لا تَصدُق التطلُّعَ له على الحقيقة، فيُثقلك وهم حِمْلِه عن حَمْلِه، وتهدر عمرك في التسويف والتأجيل والتململ ، ثم لا يعود كل ذلك عليك إلا بنكد التذبذب في الدنيا وحسرة التفريط في الآخرة!


 

[1]قصة مترجمة عن الإنجليزية، منشورة ضمن مجموعتي القصصية المترجمة: "البعيد والقريب". 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة