مأزق المساواة وجندرة الحياة في ثقافة الأسرة العربية (3)
عولمة مصطلحات النسوية الغربية ومآلاتها في ثقافة الأسرة العربية
كلما نادت النسويات الغربيات بضرورة محاربة العنف ضد المرأة؛ ازداد العنف ليدمر كل عناصر الأسرة، وكلما دعت للمساواة وإلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة؛ اشتعل التفكك والشقاق وزاد لهيبه نيراناً ليحرق الأخضر واليابس، وكلما طالبت بضرورة محو الخصوصيات وتوحيد الأدوار بين الجنسين، وجندرة الحياة؛ زادت على المرأة المسؤوليات والمتاعب خارج البيت، حيث يتم السعي لشغالها عن دورها الطبيعي التربوي داخله، وتعطيل الرجل عن دور الرجولة؛ ما يشكل هدماً للتقسيم الجنسي للإنسان، ويسمح بالأشكال الهجينة والشاذة للسيطرة على الوجود الإنساني.
ومن أجل ذلك، كانت هذه القراءة محاولة للنظر للمصطلحات بالاحتكام للمرجعيات الفكرية التي أنتجتها، والعودة إلى الأسس الفلسفية لفهم المصطلح في سياق اشتغاله الغربي، وفي حركته ومآلاته في ثقافة الأسرة العربية، وذلك لمعرفة المأزق الذي وقعت فيه المنظرات النسويات أثناء صياغة مصطلحات؛ لأنها في الحقيقة تحمل في داخلها تناقضات لافتة للنظر وإشكالات عويصة وعجيبة في آن واحد.
1- المساواة وإشكالية التماثلية لجنسين غير متماثلين:
انطلق مصطلح «المساواة» انطلاقة محتشمة، مع بدايات عصر النهضة والثورة الصناعية، خاصة في ولوج المرأة سوق العمل، والعمل في المصانع مع الرجال، هناك بدأت تناضل وتطلب المساواة في الأجور وظروف العمل، رغبة في إيجاد فرص متساوية مع الرجل، ونبذ التفاوت.
وتطور المصطلح أكثر فأكثر ليستوعب حالياً شعار «إلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة»؛ ما أفرز إشكالية في الإقرار بالتماثلية التامة لجنسين مختلفين كل الاختلاف، والمفارقة في أن المصطلح، يحمل في باطنه الاعتراف بالاختلافات ضمنياً (الإقرار بدور المرأة في الإنجاب والحمل)، ولا يعيق أن تتصدر لمهام الرجال وفي أي موقع من المواقع، وأيضاً في ظاهره التركيز على تحسين أوضاع النساء في العالم، وفي باطنه عبودية، وإساءة للطبيعة الأنثوية.
فالمساواة بين الرجل والمرأة تعني محو الخصوصيات بينهما نهائياً، وتعني المزيد من المهام والمسؤوليات على عاتق المرأة، وتعني أيضاً تأجيج الصراع بينها وبين الرجل من أجل المكاسب.
ورغم اهتمام النسويات بصياغة قوانين ومواثيق واتفاقيات داعمة للمساواة والإنصاف ومناهضة كل أشكال العنف، تقول المنظرة النسوية سارة جامبل: إن النسوية أضاعت حق المرأة في أن تكون جذابة جنسياً، وفي أن تلهو وتتمتع بنعيم الحياة المنزلية، وأنها دمرت الأسرة، وتركت الأطفال ينشؤون بلا ضوابط أخلاقية سليمة، وأنها أدت إلى العنف ضد المرأة وحوادث قتل النساء(1).
وبهذا، نفهم أن باسم المساواة تم تشويه طبيعة المرأة، وتحويلها إلى مسخ مشوّه يحمل عدة رؤوس، وعدة أعين، وأذرعاً وأقداماً ملتفة وكثيرة، إنها صورة المرأة الوحش في زمننا هذا! فيها من خصائص الرجال قدر، ومن خصائص النساء قدر، لأنها وقعت في ورطة المساواة التي صنعتها ولبستها، ولم تستطع أن تكون أنثى كاملة، ولا رجلاً مكتمل الرجولة.
العنف الرمزي أو رمزية العنف
إنه وهم المساواة، يجعلها تتحدى طبيعتها، لتمارس كل الأدوار مرة واحدة، تبرع في تحطيم كل الأرقام القياسية، وتنغمس بكل مشاعرها في أداء دور المرأة الخارقة، تماماً مثل بطلة اللعبة في الواقع الافتراضي، لقد ضاعت في سراب السيطرة وعنفوان السلطة ووهْم النفوذ، وضيعت رحيق عمرها في إثبات جدارتها بأدوار الرجولة، ونسيت دورها الأساسي كأنثى.
وللأسف، هذا أقسى شكل من أشكال العنف، تمارسه المرأة ضد نفسها، إنه العنف الرمزي، أو رمزية العنف، ولن تملك له صداً ولا رداً، لأنه خفي مضمر وأثره فتاك وصعب التخلص منه.
وتكمن المفارقة العجيبة والمأزق العويص، في سعي المشتغلات بالشأن النسوي على تحسين أوضاع النساء في العالم المتخلف، من خلال صياغة قوانين صارمة واتفاقيات ومواثيق لمناهضة كل أشكال العنف ضد المرأة، وهذا في ظاهر الأمر، والباطن المستور، في كونها تهدف لمحو الخصوصيات في الدين والقيم والثقافة وفي كل شيء.
والنتيجة الصادمة لكل الآمال، أن العنف وكل أشكال العنف، في تفاقم وازدياد ضد المرأة وضد الرجل وضد إنسانية الإنسان، بكل اللغات والألوان في الأغنية والمسلسل ولوحات الإشهار وتقليعات اللباس، بسبب تلك التوصيات المغرضة المؤججة للصراع؛ أي بقاء المرأة رهين بتدمير الرجل؛ أي تركيز صورة المرأة الخارقة التي تصرع جميع الرجال وتبقى على جثثهم واقفة بنشوة النصر مسخاً مشوهاً لا هي بالمرأة ولا بالرجل، كنموذج حديث ومتطور، وفي عداء لكل أشكال الأنثى التقليدية وحسب وصفهم «الأنثى الخانعة» الأم الرؤوم الماكثة بالبيت التي تمارس أشرف دور في تاريخ الإنسانية (الإنجاب والتربية)، الذي لا يمكن أن يفعله غيرها على الإطلاق، والذي لا يمكنها فعله حتى تكون أنثى حقيقية.
2- مصطلح الجندر وإشكالية توحيد الأدوار بين الجنسين:
يعود تعريف «الجندر» إلى مسألة النوع الاجتماعي، وهو مقولة ثقافية وسياسية تختلف عن الجنس كمفهوم بيولوجي يهتم بتوحيد الأدوار بين الجنسين، ونبذ الفرقة في توزيع الأدوار بين المرأة والرجل، ومن هذا المنطلق، فإن مصطلح النوع الاجتماعي أو الجندر، يتمركز في «تحديد الأدوار الثلاثة الإنجابي الإنتاجي المجتمعي»(2).
أي تدل على الخصائص الثقافية الاجتماعية والتاريخية بين الرجال والنساء، وأحياناً توصف بأنها دراسة خصائص التذكير والتأنيث، فهو مصطلح لتمييز الجنس الثقافي عن الجنس الطبيعي، والجنسية كممارسة(3).
ومن هنا جاءت الميوعة وفتح المجال لممارسة الحرية في اختيار الهوية الجندرية والتطلع لعمليات تحويل الجنس وعدم تقبل فطرة الله في خلقه، والمصطلح مفخخ ويحفل بالتناقضات، ويعد بداية لتحدي التقسيم الجنوسي الطبيعي للإنسان (ذكر أو أنثى)، وبالتالي يمكنه اختيار أن يكون لا ذكر، ولا أنثى، وأيضاً يختار أن يتحول من الذكورة إلى الأنوثة والعكس(4)، أو يبقى حيادياً؛ أيضاً كلفظ تهذبي لملفوظ شاذ أو مخنث، أو غير ذلك من مصطلحات تحمل محمولات فكرية معادية للفطرة الإنسانية.
أنماط جندرية أو جندرة الحياة
من الهوية الجندرية والميل الجنسي نفهم أن المنظمات العالمية تقر إقراراً فعلياً صريحاً على مبدأ الشذوذ الجنسي «الهوية الجندرية»؛ وهو ما يشعر به كل شخص في قرارة نفسه من خبرة داخلية وفردية بالجندر، بصرف النظر عن النوع المقيد في شهادة الميلاد بما في ذلك إحساس الشخص بجسده، وقد يشمل ذلك شرط حرية الاختيار، وتعديل مظهر الجسد أو وظائفه بوسائل طبية، أو جراحية(5)، وغيرها من المحدثات على الهوية.
وأيضاً الميل الجنسي يشير إلى انجذاب كل شخص عاطفياً ووجدانياً وجنسياً إلى أشخاص من جنس آخر، أو من ذات الجنس، أو من أكثر من جنس، وإقامة علاقة حميمية وجنسية معهم(6).
وفي هذا الصدد، تقدم لنا كاميليا حلمي شروحاً ضافية لمعرفة الفرق بين المتحولين جنسياً، «والمتحولين جندرياً، كلاهما متحول من جنس إلى جنس، لكن المتحول جندرياً يحسن التخفي والتورية، فالشخص الذي ولد كذكر يمكن أن يصبح أنثى معترفاً بها، من خلال استخدام الهرمونات أو العمليات الجراحية، ويمكن أن يصبح الشخص المولود كأنثى معترفا ًبه كذكر، والمتحولون جنسياً غير قادرين على تغيير علم الوراثة، ولا يستطيعون اكتساب القدرات الإنجابية للجنس الذي ينتقلون إليه»(7).
أما المتحول جندرياً، يعرض الشخص الذي لا تتطابق هويته مع الجنس الذي يحمله، ويعد مصطلح «trans gendre» الأشد خطورة على المجتمع، وتفسير ذلك أن مصطلح «المتحولين جنسياً» مرفوض قطعياً من قبل المجتمع، وأما المتحول جندرياً فهو يعمل في طياتها، المواربة والتخفي، هو باق على جنسه البيولوجي ويسلك مسالك أخرى في لباسه، مواقفه، وشخصيته(8).
ونجد تمريراً له من خلال ثقافة الصورة، التي تمارس صناعة القبول أو الإذعان، عندما تعرض المرأة وهي تؤدي دور الرجل، والرجل يؤدي دور المرأة بصورة مكررة ومستمرة كنوع من التطبيع وزرع الألفة وتسويغ الرذيلة ليعتادها المتلقي فلا ينفر منها، لتصبح مسألة الأدوار بين الجنسين أهم موضوع في واقعنا وتسمى الأدوار الجندرية، ومعها مطلب النسويات، لتقسيم المهام والمسؤوليات داخل الأسرة بالتساوي بين المرأة والرجل، كنوع من التوحيد لنمط العمل بين المرأة والرجل والدعوة للمساواة الكاملة ونزع الفوارق بين الجنسين؛ أي جندرة الحياة وإفساح المجال للأشكال الشاذة والهجينة.
وهي دعوة لإشغال المرأة عن دورها التربوي داخل الأسرة بمحاولة إغرائها بإتقان أدوار الرجل وإثبات التفوق عليه في ممارستها، وتعطيل الرجولة عن دورها وقوامتها للأسرة والمجتمع وإفساح المجال للديوثة والتخنث، وإفساد فطرة الإنسان والعبث بهويته الأصيلة، في حالة من الفوضى والوحشية.
_____________________
(1) سارة جامبل، النسوية وما بعد النسوية، ص81.
(2) دروسلا كورتل وآخرون، مفاهيم عالمية التذكير والتأنيث (الجندر)، ترجمة: أنطوان أبو زيد، المغرب، ط1، 2005م، ص62.
(3) مجموعة من المؤلفين، مفاهيم اصطلاحية جديدة، ص262.
(4) ديفيد غلوفر، كورا كابلان، الجنوسة الجندر، ترجمة: عدنان حسن، دار الحوار، ط1،2008، ص28- 29.
(5) ندوة دولية في يوغياكارتا أندونيسيا من 6-9 نوفمبر 2006م تم بالمصادقة على مجموعة من المبادئ لحماية حقوق المثليين والشواذ والمتحولين جنسياً.
(6) كاميليا حلمي طولون، المواثيق الدولية وأثرها في هدم الأسرة، ص70.
(7) كاميليا حلمي، المواثيق الدولية، ص78-79.
(8) المرجع السابق، ص79.