تضحيات زوجات قادة المقاومة.. زوجة الضيف نموذجاً
![](https://mugtama.com/storage/uploads/CMPmYXQs2vAuNIiAxhvPUHKAI3aXMEmoXdud5mf0.jpg)
أدركت حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، منذ تأسيسها، أهمية دور المرأة في الحركة، فعنيت بها وأولتها اهتمامًا كبيرًا حصدت ثماره فيما بعد، وكان لمؤسسها الشيخ الشهيد أحمد ياسين الفضل في الاعتناء بقسم الأخوات منذ وقت مبكر، وكان اهتمامه بتربية النساء نابعًا من رؤية إستراتيجية وليس اهتمامًا مرحليًّا، وهو ما أفرز جيلًا من الأخوات المنتميات للحركة القادرات على حمل أعباء الدعوة وشتى صنوف المقاومة.
لقد شاركت تلك الفتاة، التي تربَّت على مناهج الحركة، في أعمال الفكر والأدب، وفي الأعمال الخيرية، وأعمال البر والإمداد، وفي الإغاثة والتطبيب، وعقدت الفعاليات والمهرجانات الغنائية المساندة للمقاومة، وأحيت أعراس المقاومين، وهرّبت الأموال والسلاح داخل فلسطين، وربّت أولادها في غياب زوجها الأسير أو الشهيد، وتعرضت للاعتقال والسجن والتعذيب والاغتيال، وقاومت الحصار، وصبرت على التنقل والمطاردة مع زوجها من سكن لآخر خوفًا من الملاحقة، وولدت على الحواجز، وأجهضتها غارات العدو، وتعرض بيتها للتدمير فلم تخرج منه تثبيطًا لهمم العدو وتحريضًا لنساء شعبها على الجهاد والرباط.
زوجات قادة المقاومة
وقد حظيت زوجات قادة المقاومة باهتمام أكبر من جانب الحركة، خصوصًا من انخرط أزواجهن في «كتائب الشهيد عز الدين القسّام»، وتفرغن للشأن العسكري؛ إيمانًا من الحركة بأن قناعة زوجة القائد بمبادئه سوف يحملها على احترام هذه المبادئ وتحمُّل الصعاب والمشاق من أجلها، وسوف تكون عونًا له في مهامه النبيلة، تشد أزره وتحفظ سره، فإن غاب عنها أو استُشهد قامت بدوره في رعاية أسرته، وهذا يرجّح رأي من يقولون: إن زوجات القادة هنّ من ثبتن المقاومة وجعلنها صامدة عصية على الانكسار، وتبرز تضحيات هؤلاء الزوجات في العديد من الجوانب، أهمها:
- يتعرضن لما يتعرض له أزواجهن:
تتعرض زوجة قائد المقاومة لما يتعرض له من محن، وضغوط وتحديات، من أسر واعتقال واستهدافات مباشرة (استُشهد القيادي صلاح شحادة ومعه زوجته وابنته عام 2002، واستشهدت زوجة القيادي محمد الضيف ومعها ابناهما عام 2014م، ونجا هو من الاغتيال)، وفَقَدنَ الأزواج والأبناء (مثل زوجات الشيخ ياسين، والرنتيسي، والمبحوح، وهنية، والسنوار، والضيف.. وغيرهم)، ويعانين كما يعاني الأزواج من الحصار والتضييق، ويتحملن أعباء النضال والمقاومة، وهي أكثر من أن تُعد.
وفي محنة «طوفان الأقصى» التي استطالت، تعرضت كثير من زوجات القادة وأبناؤهم للقتل وتدمير البيوت، وعانين -ككل نساء «غزة»- من التهجير والنزوح والجوع والأمراض، بل كانت محنتهن أشد من غيرهن للصلة التي تربطهن بالمقاومين، وما يستتبعه ذلك من ملاحقات من قبل المحتل وعيونه للوصول إلى ما يفيده في تحقيق أهدافه العسكرية.
- يثبتن في مواطن المحنة:
أثبتت قرينات قادة المقاومة قدرتهن العجيبة على احتمال المحن والخروج منها أقوى مما كنّ، وضربن الأمثلة الرائعة في الصبر والصمود في وجه المحتل، وأعدن بنضالهن وثباتهن أمجاد المرأة المسلمة في السنوات الأولى للإسلام عندما خرجت مهاجرة ومجاهدة بائعة نفسها ومالها لله، وقد تعرضت للإيذاء والترويع فما فتّ ذلك في عضدها، كما لم يثنها عن مواصلة السير في ذلك الطريق الشائك الذي يعجز عن بلوغه أقوى الرجال، إنه الإيمان والتربية على الفهم والإخلاص والتجرد والتضحية، حتى لم تُرصد بينهن يائسة أو منهارة لما لحق بها من فقدٍ أو هدمٍ أو فقر، بل كن –جميعًا- صامدات محتسبات، راضيات مستبشرات.
لمّا اغتال الصهاينة القائد أحمد الجعبري بقصف سيارته عام 2012م، ظهرت زوجته في جنازته ثابتة، رابطة الجأش، تدعو إلى الانتقام وتصعيد المقاومة، وكذلك زوجة د. عبدالعزيز الرنتيسي التي عقّبت على اغتياله عام 2004م، بقولها: «نحن نؤمن بالشهادة، وإن استُشهد زوجي فهناك ألف مجاهد غيره»، واستمرت بعده تدعم المقاومة وتربي أبناءها على خطى والدهم، وزوجة القائد إسماعيل هنية، التي فقدت عددًا كبيرًا من أبنائها وأحفادها وأقربائها، فوُجدت صابرة محتسبة، ثم شُوهدت وهي تودع جثمان زوجها الطاهر فما سمعنا منها تسخّطًا أو صراخًا مما تفعله عموم النساء.
- يقمن برعاية الأبناء وإدارة البيوت:
مثلما كانت زوجة القائد القسّامي عامل ثبات في شهوده -كالتي تقول لزوجها: استوعب الحدث ولا تدع الحدث يستوعبك، أو التي تقول له عندما يستعرض معها التحديات: الله أكبر يا فلان، اثبت فقد عهدناك رجلًا- غدت تحمل أدواره الرئيسة في رعاية الأبناء واستقرار الأسرة في حال غيابه أو استشهاده، فضلًا عن أدوارها الدعوية، وقد نالت ثقة بنات جنسها وصارت ردءًا للمقاومة وقوة سياسية ومجتمعية لا يُستهان بها.
في تلك البيئة الصعبة، وفي غياب الزوج، تربي زوجة القائد أبناءها، الذين يواجهون تحديات نفسية واجتماعية خطيرة جرّاء الظروف الأمنية المعقدة؛ محافظة على استقرار العائلة، والموازنة بين هذه المسؤولية ومسؤولياتها الأخرى، مع حرصها على تمتين علاقة الأبناء بربهم ودينهم، وحملهم على حب وتقدير اختيارات والدهم، وزرع قيم الثقة والقوة والرجولة في شخصياتهم.
- دعم العمل المقاوم وتعزيز النضال:
لزوجات المقاومين عمومًا دور تربوي وأخلاقي وتوعوي مبادر، كشريك داعم للرجل المقاوم، ولتعزيز الصمود والنضال الفلسطيني، حتى غدت مصدر إزعاج للمحتل الذي ما فتئ ينكّل بهن كما يفعل بالرجال، شاركت زوجات المقاومين مع غيرهن في الأنشطة العسكرية والأمنية للكتائب، فتأسست فصائل للعمل المساند وتقديم الدعم اللوجستي، إضافة إلى القيام بالأعمال الإغاثية للمتضررين من الحروب والحصار، كالرعاية الصحية للمصابين، وكفالة الأيتام، وتنظيم الأنشطة التعليمية والاجتماعية، وفي داخلها التحفيز على الصمود، وتوعية المجتمع، ودعمه نفسيًّا ومعنويًّا.
وقد استقر في واقع المقاومة أن هناك أعمالًا لا تقوم بها سوى النساء، وكلما ازدادت الخطورة الأمنية لهذه الأعمال اُختير لها زوجات الأعلى في التسلسل القيادي داخل الكتائب؛ ما يلقى بالمسؤوليات الجسام عليهن، فتوسعت –من ثمَّ- رقعة العمل الجهادي، ونفّذت المرأة –بأوامر وترتيبات الكتائب- أعمالًا فدائية، وشكلت درعًا حصينة للمقاومة، وهي في ذات الوقت أم أو زوجة أو أخت أو ابنة شهيد أو جريح أو أسير، فلم تبخل على وطنها ومقدساتها بدم أو مال، بل انطلقت في مسار تعبوي واثق، معززة بخطاب ديني ووطني ينادي بالتحرر وإزهاق العدوّ.
زوجة «الضيف» نموذجًا
يعد محمد الضيف، القائد العام لـ«كتائب القسام»، أحد أبرز أبناء الجيل الأول من القساميين، وكرمز للبطولة والتخفي، وكأخطر شخصية فلسطينية تهدد أمن الكيان، الذي وضعه على رأس قائمة المطلوبين منذ بداية التسعينيات، تعرض الضيف لـ7 محاولات اغتيال بطائرات وصواريخ العدو، نجا من 6 منها، لكنها خلّفت إصابات عدة في عينيه وجسده، ثم ارتقى في المحاولة السابعة في منتصف يوليو 2024م في منطقة «مواصي خان يونس» وفقد في إحدى المحاولات زوجته الثانية وداد عصفورة واثنين من أبنائهما، وهذه الحالة من المطاردة والتخفّي جعلت أسرته تعيش حياة غير مستقرة.
بعد وقف إطلاق النار في غزة، في 19 يناير الماضي، وبعد إعلان واستشهاد الضيف، ظهرت زوجته الأولى غدير صيام (أم خالد) للإعلام لأول مرة منذ تزوجته وزُفّت إليه بشكل سري في صيف عام 2001م، وهي ابنة لإحدى الفلسطينيات المحررات، وكانت تسمى بمنى حمدان (أم فوزي).
ومنذ ذلك الحين لم يكن لهم بيت، وكانوا يتنقلون بصفة دائمة من مكان إلى آخر، وقد عاشت بدون أثاث في منازلها تلك، إلا من مفرش من الحصير و4 فرشات وخزانة بلاستيكية للثياب؛ ولأن زوجها كان غائبًا عنها طوال الوقت، حتى إنه لم يحضر ولادة أيٍّ من أبنائه ولا جنازة زوجته الثانية ولا عزاء والده أو والدته، فكانت تدّعي أمام الناس أنه مغترب، فإذا حضر كانت تلتقيه لساعات خارج المنزل، أما آخر عهدها به فكان يوم 6 أكتوبر 2023م؛ أي قبل وقوع «الطوفان» بيوم واحد.
امرأة مؤمنة
بدت هذه السيدة في لقائها الإعلامي مع قناة «الجزيرة»، وحولها أبناؤها التوائم الثلاثة وابنة زوجها حليمة محمد الضيف، تعلوها مسحة من إيمان ويقين، واستبشار بالنصر، نموذجًا للصمود والثبات، رغم نبأ استشهاد زوجها، ورغم ما تحملته من تهديدات وأعباء المطاردة، وفية لزوجها وأبنائها، ولقضية شعبها ومقاومته، وكانت أم خالد قد نزحت كآلاف النازحين في غزة لا تتميز عنهم بشيء، بل لا يعرفها أحد، وقد تعجّب المحاور من بقائها في «مركز الإيواء» رغم مكانة زوجها، فردّت بقولها: «هذه حياتنا منذ البداية، لم نعش حياة الترف، بل كأي مقاتل في الكتائب»، مؤكدة أنها ستربي أبناءها على منهج أبي خالد «الجهاد في سبيل الله وتحرير القدس».