«طوفان الأقصى».. معراج للأمة
ذكرى الإسراء والمعراج هذا العام 1446هـ لها طعم مختلف، ومعانٍ جديدة، تتجسد في هذا المشهد الطوفاني الذي تابعناه ورأيناه في معركة «طوفان الأقصى» طوال خمسة عشر شهراً؛ مُختتَمًا بمشهد تبادل الأسرى المهيب الذي استطاعت حركة «حماس» من خلاله أن تمثل أفضل تمثيل رجلَ الدعوة والدولة، ورجل الحرب والسلم، ورجل الأخلاق والمبادئ، ورجل المصالح والمقاصد.
المشهد اللغوي لمعراج الطوفان
وقبل الحديث عن معراج الطوفان، لا بد أن ننطلق من المنطلق اللغوي، وسنرجع فيه لابن فارس اللغوي العظيم في حديثه عن جذر «عرج» (مقاييس اللغة: 4/ 303-304) قال: العين والراء والجيم ثلاثة أصول: الأول يدل على ميل وميل، والآخر على عدد، والآخر على سمو وارتقاء.
قال: فالأول: العرج مصدر الأعرج، ويقال منه: عرج يعرج عرجًا، إذا صار أعرج.
والأصل الآخر: من الإبل، قال قوم: ثمانون إلى تسعين، فإذا بلغت المائة فهي هنيدة، والجمع عروج وأعراج.. ويقال: العرج مائة وخمسون، وهذا الأصل قد يمكن ضمه إلى الأول، لأن صاحب ذلك يعرج عليه ويكتفي به.
والأصل الثالث: العروج: الارتقاء، يقال: عرج يعرج عروجًا ومعرجًا، والمعرج: المصعد، قال الله تعالى: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) (المعارج: 4).
وهنا لنا وقفات مع كل معنى من هذه المعاني الثلاثة.
الأول: الميل، وبه مالت المقاومة عن طريق الخنوع والذلة والانكسار، إلى طريق العزة والجهاد والنصر والفخار، في وقت ترسف الأمةُ فيه تحت نير الاستعباد والاستبداد والطغيان، وكان شعارها «الحَنَف»؛ يعني الميل؛ فكأنها جعلت شعارها قوله تعالى: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 79)، فكانت النتيجة أن أكرم الله المقاومة الباسلة بما رأيناه وتابعناه.
الثاني: العدد من الإبل البالغ من ثمانين إلى تعسين إلى مائة وخمسين، وقد رفعت المقاومة سقفه إلى أربعمائة وألف؛ حيث إن القيادة العسكرية حينما أخذت القرار أخفته عن الأفراد، وقبل ساعات من وقت الانطلاق فاتحت القيادة هؤلاء الجنود البالغ عددهم 1400 مجاهد كان عليهم أن يَعبُروا السياج الفاصل ويقوموا بهذه العملية، وخُيروا بين أن يمضوا إلى إنجاز العملية أو يُعذروا، والكل عنده أعذار بأشغاله وأحواله، ولكنهم حين خُيّروا تقدموا ولم يتراجع منهم واحد، فحُق للمعاجم اللغوية أن ترفع المعنى الثاني لهذا الجذر اللغوي «عرج» إلى 1400 بدلاً من 150.
أما المعنى الثالث: الارتقاء، فلا أدل على ذلك من الارتقاء الشامل والواسع الذي كان من آثار «طوفان الأقصى» على مستويات؛ الفرد والأسرة والأمة والإنسانية، وفي المجالات الإيمانية والسياسية والعسكرية والإعلامية، وهو ما سيتضح في مظاهر المعراج التي سنرصد بعضها الآن.
مظاهر المعراج في «طوفان الأقصى»
لقد جسَّدت «طوفان الأقصى» معراجًا حقيقيًّا للأمة المسلمة، وتجلى ذلك في مظاهرَ ونواحٍ عدة، نَعُدُّ منها ولا نُعدّدُها المظاهرَ والجوانب الآتية:
الأول: كانت معركة «طوفان الأقصى» معراجًا إيمانيًّا للأمة كلها؛ حيث ارتقى إيمان الأمة في قلوبها إلى أعلى مستوياته، بهذه المشاهد الإيمانية الباهرة، وهذا الثبات العجيب، وذلك الرضا التام، الذي لم نسمع به أو نقرأ عنه إلا في زمن الصحابة ومن تبعهم بإحسان؛ الأمهات والزوجات والبنات والأطفال، الكل يودع شهداءه برضا وثبات وإصرار ويقين؛ ما جعل غزة محلاً لأنظار العالم الذي أقبل غيرُ المسلمين فيه يتساءلون عن سر هذه المعاني السامية والمقامات الراقية، فإذا الإجابةُ هي الإسلام، فكانت النتيجة أن دخل كثير منهم في دين الله تعالى.
الثاني: وكانت معركة «طوفان الأقصى» معراجاً في باب المفاهيم؛ حيث ابتليت أمتنا باتباع مضامين الغرب في المفاهيم؛ فهو يحسب كل شيء حساباتٍ ماديةً، ولا يضع حسبانًا للأبعاد الروحية ولا الإيمانية العقدية، ولا السنن الإلهية؛ وانطلقت مقولاتٌ آثمة كليلة بأن المقاومة ورّطت نفسها، وتسببت في تدمير قطاع غزة، وذهب كثير من أبناء الأمة إلى حالة من اليأس والقنوط وانقطاع الأمل، فإذا بالمقاومة تعيد الوعي بمفهوم الإعداد القرآني، وبمفهوم الأخذ بالأسباب المنبثق من السنن الإلهية.
وهي مفاهيم إيمانية قرآنية تقضي بأن الإعداد أو الأخذ بالأسباب إنما هو حسب القدرة؛ (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)، وليس مطلوبًا من المسلمين أن يَعُدوا عدة أو يأخذوا بأسباب تجعلهم مساوين للعدو أو على نفس قوته وعتاده، وإنما المستطاع فقط، وعندها ستتدخل العناية الربانية، وهو ما كان؛ حيث هزم بضعةُ آلاف من المجاهدين ترسانة الكياني «الإسرائيلي»، وقهرت قوى الخذلان والتآمر على الحدود، وكسرت هيبة المجتمع الدولي الذي ظاهر الكيان على المقاومة، ومدَّه بكل ما يلزمه من المال والسلاح والدعم المعنوي، ولكن تحقق قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (الأنفال: 36).
الثالث: وكانت معركة «طوفان الأقصى» معراجًا في باب اتضاح الرؤية للمسلمين والعالم؛ حيث كان يرى كثير منا معركتنا مع الغرب معركة مصالح وسياسة؛ فإذا بـ«طوفان الأقصى» تثبت من جديد أن المعركة بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، بين حضارة وحضارة، بين مشروع ومشروع، ولم تكن يوماً معركة مصالح، وإن تلفّعت بها في بعض الأحيان.
ظهر ذلك على لسان مسؤولين في الكيان، وعلى لسان نواب في برلمانات أوروبا وأمريكا، بل على لسان الرئيس الأمريكي العجوز بايدن.
وكذلك اتضحت الرؤية لدى الكثيرين بأن قوة الإيمان –مع إعداد المستطاع- تكفي لأن تهزم صناديد الكفر بعدته وعتاده، وجيشه ورَجِلِه، كما مايزت بين الصفوف، على مستوى الأفراد وعلى مستوى الحكومات والأنظمة؛ ليحيا من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.
الرابع: وكانت «طوفان الأقصى» معراجًا في منحنى التاريخ للمقاومة؛ حيث ارتقت المقاومة بها إلى مصاف الظهور والتقدم في منحنى الرسم البياني للمقاومة؛ فبهذه المعركة أصبح نجمُ المقاومة في علو وتقدم، ولن يعود للوراء، بل سنشهد في الأيام القادمة لمعسكر المقاومة مزيدًا من العلو والتقدم والانتصار، ولمعسكر الكيان ومن عاونه مزيدًا من التقهقر والتراجع والانكسار، إلى أن يتم الإجلاء والتحرير القادم، هكذا نراه قريبًا، وإن رآه البعض بعيدًا.
الخامس: وكانت «طوفان الأقصى» معراجًا سياسيًّا للحركة؛ حيث أثبتت كفاءتها في التفاوض والتعامل الدبلوماسي والسياسي؛ إذ تعاملت مع كل المبادرات والمواقف والوسطاء بمهارة عالية، وتجاوب كبير، ونجحت –إلى حدٍّ بعيد– في أن تحافظ على توازنها وتحقق هذه المعادلة في الجمع بين التمسك بثوابت القضية وثوابت أهدافها المعلنة في المعركة، وبين المرونة الكبيرة في التعامل مع المشهد السياسي والدبلوماسي بشكل يستحق أن يُدرّس في أرقى المدارس والمعاهد التي تُدرّس السياسة والتعامل الدبلوماسي.
السادس: وكانت «طوفان الأقصى» معراجًا في المشهد الإعلامي، لا سيما الإعلام العسكري للمقاومة الذي جنّن العدو، وتعامل بكفاءة عالية أخضع بها القنوات الفضائية الأشد عداوة للمقاومة، فجعلتها تبث ما تنشره رغمًا عنها، وهي لا تملك أمام جماهيرها إلا ذلك؛ خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة.
استطاع الإعلام العسكري بمهارته العالية أن يُوجِد فجوة بين شعب الكيان «الإسرائيلي» ونتنياهو ومجلس حربه، وذلك بالمشاهد التي بثها، وبالحقائق التي أعلنها، وبمقاطع الفيديو لبعض الأسرى الصهاينة التي نشرها؛ ما زاد من سخط الشعب «الإسرائيلي» وجعله يُسيّر مظاهراتٍ تطالب بالإفراج الفوري عن أسراه؛ ما شكّل ضغطًا كبيرًا على قيادة الكيان ومجلس حربه.
كل هذا في كفة وخطابات المتحدث الإعلامي العسكري أبي عبيدة في كفة أخرى، تلك الخطابات التي جسّدت أسمى معاني الإيمان، وأنبل معاني العزة، وأصدق مشاعر النصر والاعتصام بحبل الله؛ فكان شعب الكيان ينتظر أبا عبيدة ليعرف منه الحقائق التي يكذب فيها العدو، كما تنتظره جماهير الأمة العربية والإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها.
وأخيرًا وليس آخرًا: فإن مظاهر المعراج الذي أثمرته «طوفانُ الأقصى» لا تنتهي، ولو ذهبنا نتتبع هذه المظاهر في جوانبها المختلفة ومستوياتها المتنوعة لما وسعتنا هذه الصفحاتُ، ولاحتجنا معها لإيفائها حقًّها مزيدًا من الصفحات حتى تبلغ كتابًا كاملًا.
استشراف مستقبل المعراج الطوفاني
يمكننا أن نتنبأ بمستقبل المعراج بعد «طوفان الأقصى»، وذلك إذا نظرنا إليه بمنظار فلسفة التاريخ، وحَكّمْنا منهج السنن الإلهية في الأنفس والآفاق، واستدعينا قوانين الاحتلال والمقامة، ولم تقتصر نظرتنا في التعامل مع الأمور على النظرة المادية والتقييمات الخاضعة للحظة الراهنة، كما يفعل الغرب غير المؤمن بهذه الأبعاد جميعًا.
إذا نظرنا للمشهد وفق هذه الأبعاد مجتمعةً سنجد أن كل هذا يقضي بأن المقاومة ماضيةٌ قُدُمًا في معراجها المستمر إلى أن تصل إلى سدرة منتهى التحرير الكامل للأرض والعرض، والمسرى والأسرى، والقدس وفلسطين؛ فلم يعرف التاريخُ مقاومةً بدأت في التفوق على الاحتلال ثم عادت وانكسرت، بل تظل في طريق العروج والارتقاء، كما يظل المحتل الغاصب في التدحرج والانكسار حتى يتم التحرير الكامل.
وفي هذه المعركة المعراجية الطوفانية الارتقائية لا بد من إسناد المقاومة، والوقوف معها بكل ما نملك؛ ماديًّا ومعنويًّا، حتى يتحقق هذا التحرير؛ حيث إن احتلال فلسطين لا يعني أي احتلال، كما أن تحريرها لا يعني أي تحرير؛ فهي أرض النبوات، وأرض الرسالات، وأرض المقدسات، وأرض المسلمين قاطبة، وإننا نرى هذا النصر قريبًا؛ (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (الشعراء: 227).