معرفة علل الصيام طريق استشعار عظمته

محمد الحداد

24 مارس 2025

103

من العلوم المغفول عنها عند الكثيرين علم علل الشرائع، رغم فوائده التي يصعب تعداد إجمالها ويستحيل حصرها تفصيلًا، وفي هذا المقال نتعرض لنفحات مضيئة بشأن عبادة جليلة فرضها الله عز وجل على جميع الأمم وهي الصيام، وما فيها من حكم ظاهرة وعلل باطنة، وذلك لنرى ثمراتها العظيمة على العبودية، وفوائدها الجليلة في التربية الإيمانية.

فائدة معرفة علل الشرائع

من رحمة الله عز وجل وعظمة دينه أنه يُظهر للصالحين من عباده علل تشريعاته، وذلك ليزداد يقينهم في حكمته تعالى، ويعظُم إقبالهم على عباداته، وتجري على ألسنتهم فواتح من ربهم في دعوة الناس إليه ودلالتهم عليه.

ورغم عظيم منة الله تلك على عباده؛ فإن بعض من لا خلاق لهم قد تسوَّروا باب علل الشرائع بغير حق، فتارة يعينوا عللًا تخالف المحكمات المعلومات من دين الله ضرورةً، وتارة يتَّكِلوا عليها في إبطال عين الشريعة بدعوى تحصيلها عن غير التعبد بها، وذلك مما عظَّم رغبة البعض في معرفة العلل للتحلل من الشرائع، وعظَّم زهد غيرهم في معرفتها لكيلا يشابهوا هؤلاء المبطلين، وكلٌ في تطرف يعصم منه تحقيق العبودية بفعل الأوامر واجتناب النواهي؛ مع التعرض للمُرغِّب فيها المورث برد اليقين من تشريعها الدافع إلى الرضا عن ربها سبحانه.


الإسراف والتبذير في رمضان.. بين السُّنة النبوية والحكمة الشرعية |  مجلة المجتمع الكويتية
الإسراف والتبذير في رمضان.. بين السُّنة النبوية والحكمة الشرعية | مجلة المجتمع الكويتية
الإسراف والتبذير سلوكان مذ...
mugtama.com
×


الحكم الظاهرة في الصيام

وإن الله قد (أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان: 20)، فمن الظاهرة ما عيَّن من حِكَم الشرائع ومقاصدها، ومن الباطنة ما استنبطه أهل العلم من نصوص الوحي الشريف من عللها، وذلك حاصل في شريعة الصيام، فإن الله عز وجل قد قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، ويظهر من الآية الكريمة 4 حكم ظاهرة:

الأولى: يظهر في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ما أراده عز وجل من عباده بتحقيقهم الإيمان، فإنه لا يكون إلا بتصديق العمل للاعتقاد، فمن آمن بالله حقًا أطاعه بأداء ما فرضه من الصيام.

الثانية: يظهر في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) أن الإيمان لا يكون إلا بإيجاب المرء على نفسه ما أوجبه الله عز وجل عليه، بخلاف من أبى الإيمان بداخله فرفض العبودية بظاهره، أو نافق فأظهر خلاف ما يُبطن.

الثالثة: يظهر في قوله تعالى: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) الإشارة إلى فضل الاقتداء بالصالحين، وتعظيم الرابطة بين المؤمنين، مهما بعد الزمان واستحالت المعاينة، فإن أهل الإسلام المتأخرين خلف لسلف صالح من أهل الإسلام المتقدمين، كلٌ إخوة في ذات الدين.

الرابعة: يظهر في قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أن الله عز وجل لن ينالَ جوعنا وعطشنا، ولكن ينالنا تحقيق تقواه بفعل ما أوجبه تعالى من فريضة الصيام وترك ما حرمه من إهماله.


رمضان شهر التقوى |  مجلة المجتمع الكويتية
رمضان شهر التقوى | مجلة المجتمع الكويتية
إن الله تبارك وتعالى أوصى عباده بتقواه التي يحصِّل...
mugtama.com
×


العلل الباطنة في الصيام

أما العلل الباطنة المستنبطة من الآية وما يصدقها من آيات كريمة أخرى وأحاديث نبوية شريفة فكثيرة، منها:

1- أن الصيام امتناع عن شيء حلال في شرع الله أصالةً؛ وهو الأكل والشرب والجماع، فالعبد الصائم الذي أحل ما أحله الله في وقت هو هو من حرَّم نفس الشيء في وقت آخر لأن الله حرمه فيه، فهو عبد الله يحل ما يحله ويحرم ما يحرمه سواء في جنس الحلال والحرام أو توقيته، ويتجلى في ذلك غاية الاستسلام لأمر الله عز وجل.

2- أن الطعام والشراب والجماع من الجبلة الفطرية والضرورة الإنسانية التي خلق الله الناس عليها وبها تتحقق مقاصد معايشهم، فأن يحرم ربهم عز وجل عليهم ذلك في وقت معين حال الصيام ثم يطيعوه في ذلك؛ لهو من الاعتراف بخالقيته وما فطر الناس عليه، ثم شكره على ما أباح سبحانه ما يوافق فطرتهم في سائر الأوقات الأخرى.

3- أن الله عز وجل يريد لعبادة الطهارة من كل دنس، فحثهم على الزكاة، ومن تراتيب الشريعة حثها على الزكاة من جنس النعمة، فزكاة المال التصدق منه، وزكاة العلم تعليمه، وكذلك زكاة الصحة وما يحرسها من الطعام والشراب والبُضع الامتناع عنه في وقت معين حددته الشريعة، وبذلك يطهُر البدن عن كل رجس، وينعم بنور الطهارة.

4- أن الصيام عبادة مفروضة على جميع الناس كما فرضت على سائر الأمم قبلنا، وفي ذلك بيان لاستواء الخلق جميعًا في العبودية غنيهم وفقيرهم قويهم وضعيفهم، فلم يفرض الله الصيام على الغني دون الفقير ليشعر به -كما يشتهر على ألسنة بعض العوام في تعيين علة الصيام- ولكنه فرضه على الجميع ليتواطؤوا على نفس العبودية فيستووا فيها أمام الله عز وجل.

5- أن الصيام يعلم الصبر من جهة فاضلة ليست في غيره، فإن الصبر في الأصل يكون عن المعاصي بتركها أو الطاعات بلزومها أو الأقدار بعدم الجزع منها، ولكن الصيام صبر عن ضرورة جبلية لا ينفك عنها حيّ، فيخلص العبد بها عن كل إرادة إلا إرادة وجه الله عز وجل، لذا تكفل الله عز وجل بجزاء الصيام ولم يعينه مثل سائر الطاعات كما ثبت في الحديث القدسي المشهور.

6- أن في الصيام تحقيق لمعاني الانكسار والذل والتواضع بين يدي الله عز وجل، فإن التارك لما ينفعه في نفسه وبدنه كالطعام والشراب والبُضع آكد أن يحصّل معاني العبودية لربه تلك ممن يترك ما يضره في نفسه وجسده كمحرمات أخرى مثل أكل الخنزير وشرب الخمر وأمثال ذلك.

7- أن الصيام عن الحلال في الأصل من أعظم الإشارات لنفس العبد أن يصوم عن الحرام، فكأنه يكلم نفسه فيقول لها: قد صبرتِ عن حلال ينفعُك لرضا ربك؛ أفلا تصبرين عن حرام يضرك لأجل ذلك؟! ويصدق ذلك ما ثبت في الأحاديث النبوية أن الصيام جُنة ووجاء عن المعاصي.

فلله الحمد على جميع نعمه الظاهرة والباطنة، وله الشكر كما يحب ويرضى.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة