12 فبراير 2025

|

من أحداث شهر شعبان.. وفد خَوْلان وحوادث هذا الزمان

د. أحمد طه

09 فبراير 2025

5351

تأتي حوادث الدهر والأيام التي مرت برسول الله، صلى الله عليه وسلم، بكثير من المتشابهات الحياتية والمواقف اليومية التي تمر بها أمته في هذا الزمان، وكم تحمل هذه المواقف التي نبأتنا بها سيرة النبي ونبهتنا عليها من متطابقات وقراءات عميقة سديدة، ورؤية واضحة لما ينبغي أن نعيه فهما وننزله واقعا ونسيره حركة.

 

لقد كان شهر شعبان مليئا بكثيرٍ من المواقف والأحداث العظيمة التي مر بها النبي مع صحابته، من ذلك: 

زواجه بأمهات المؤمنين حفصة وجويرية، وكذا غزوة بدر الثانية، وبني المصطلق، وكثير من السرايا بقيادة كبار الصحابة: أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وعلي وغيرهم، وغير ذلك من الأحداث العظيمة التي تدلل على الحركة النبوية والصحابية، والتي تؤكد ديمومة العمل لله والبذل في سبيله والتضحية لدينه.
 ومن هذه الأحداث العظيمة التي جاءت في آخر العهد النبوي في العام العاشر  للهجرة النبوية استمرار مسيرة الوفود المسلمة التي دخلت في هذا الدين بعد فتح مكة، وبداية عام الوفود العام التاسع من الهجرة، فدخلت قبائل العرب إلى الإسلام: وفد بني تميم، وثقيف، وطي، وعبد القيس وغيرهم، واستتبعت الوفود في العام العاشر فجاء وفدُ خَولانَ وكِنْدةٍ، وغَامِدٍ، وغَسَّانَ والرُّهاويينَ، وَنَجْرَانَ وصُدَا، والأَزْدِ، وبجيلةَ، وحضر موتَ، ومُرةَ، وعَبسٍ، وأَسدٍ وغيرهم.

 

وخَوْلانُ: من قبائل اليمن القحطانية، وهم من كهلان، وهم بنو خولان بن عمرو والذي ينتهي نسبهم إلى كهلان بن سبأ، وتقع ديارهم شرقي صنعاء.

 

روى ابن سعد وأصحاب السير قصتهم وحوارهم مع رسول الله، قال ابن القيم في زاد المعاد: "وَقَدِمَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ سَنَةَ عَشْرٍ وَفْدُ خَوْلَانَ، وَهُمْ عَشَرَةٌ فَقَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحْنُ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمُصَدِّقُونَ بِرَسُولِهِ، وَقَدْ ضَرَبْنَا إِلَيْكَ آبَاطَ الْإِبِلِ، وَرَكِبْنَا حُزُونَ الْأَرْضِ وَسُهُولَهَا، وَالْمِنَّةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَلَيْنَا، وَقَدِمْنَا زَائِرِينَ لَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ مَسِيرِكُمْ إِلَيَّ فَإِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خَطْوَةٍ خَطَاهَا بَعِيرُ أَحَدِكُمْ حَسَنَةً، وَأَمَّا قَوْلُكُمْ زَائِرِينَ لَكَ، فَإِنَّهُ مَنْ زَارَنِي بِالْمَدِينَةِ كَانَ فِي جِوَارِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا السَّفَرُ الَّذِي لَا تَوَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا فَعَلَ عَمُّ أَنَسٍ" (وَهُوَ صَنَمُ خَوْلَانَ الَّذِي كَانُوا يَعْبُدُونَهُ) قَالُوا: أَبْشِرْ، بَدَّلَنَا اللَّهُ بِهِ مَا جِئْتَ بِهِ، وَقَدْ بَقِيَتْ مِنَّا بَقَايَا -مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ وَعَجُوزٍ كَبِيرَةٍ- مُتَمَسِّكُونَ بِهِ، وَلَوْ قَدِمْنَا عَلَيْهِ لَهَدَمْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَدْ كُنَّا مِنْهُ فِي غُرُورٍ وَفِتْنَةٍ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا أَعْظَمُ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ؟" قَالُوا: لَقَدْ رَأَيْتُنَا أَسْنَتْنَا حَتَّى أَكَلْنَا الرِّمَّةَ، فَجَمَعْنَا مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَابْتَعْنَا بِهِ مِائَةَ ثَوْرٍ وَنَحَرْنَاهَا "لِعَمِّ أَنَسٍ" قُرْبَانًا فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَرَكْنَاهَا تَرِدُهَا السِّبَاعُ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ إِلَيْهَا مِنَ السِّبَاعِ، فَجَاءَنَا الْغَيْثُ مِنْ سَاعَتِنَا، وَلَقَدْ رَأَيْنَا الْعُشْبَ يُوَارِي الرِّجَالَ، وَيَقُولُ قَائِلُنَا: أَنْعَمَ عَلَيْنَا "عَمُّ أَنَسٍ"، وَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانُوا يَقْسِمُونَ لِصَنَمِهِمْ هَذَا مِنْ أَنْعَامِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ جُزْءًا لَهُ وَجُزْءًا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، قَالُوا: كُنَّا نَزْرَعُ الزَّرْعَ فَنَجْعَلُ لَهُ وَسَطَهُ، فَنُسَمِّيهِ لَهُ، وَنُسَمِّي زَرْعًا آخَرَ حُجْرَةً لِلَّهِ، فَإِذَا مَالَتِ الرِّيحُ فَالَّذِي سَمَّيْنَاهُ لِلَّهِ جَعَلْنَاهُ لِعَمِّ أَنَسٍ، وَإِذَا مَالَتِ الرِّيحُ فَالَّذِي جَعَلْنَاهُ لِعَمِّ أَنَسٍ، لَمْ نَجْعَلْهُ لِلَّهِ، فَذَكَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} (الأنعام: 136). قَالُوا: وَكُنَّا نَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ فَيَتَكَلَّمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "تِلْكَ الشَّيَاطِينُ تُكَلِّمُكُمْ" وَسَأَلُوهُ عَنْ فَرَائِضِ الدِّينِ، فَأَخْبَرَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ لِمَنْ جَاوَرُوا، وَأَنْ لَا يَظْلِمُوا أَحَدًا. قَالَ: "فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" ثُمَّ وَدَّعُوهُ بَعْدَ أَيَّامٍ وَأَجَازَهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَلَمْ يَحُلُّوا عُقْدَةً حَتَّى هَدَمُوا "عَمَّ أَنَسٍ».

 

وفي رواية ابن سعد: "وَأَمَرَ مَنْ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ، وَأُنْزِلُوا دَارَ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَأَمَرَ بِضِيَافَةٍ فَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ جَاءُوا بَعْدَ أَيَّامٍ يُوَدِّعُونَهُ فَأَمَرَ لَهُمْ بِجَوَائِزَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشٍّ، وَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَلَمْ يَحِلُّوا عُقْدَةً حَتَّى هَدَمُوا عَمَّ أَنَسٍ، وَحَرَّمُوا مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم، وَأَحَلُّوا مَا أَحَلَّ لَهُمْ"

 

وبالطبع لا يتحمل المقال سيل الدروس والعظات والعبر التي يحملها هذا الحوار العظيم، ولكن أنبه على بعض منه يتشابه مع حوادث زماننا ويرسم من جديد تجديد عهدنا. 

 

أولا: عودة اللقاءات المورثة والمراجعات المصححة: 

إن أول ما ينبغي أن نرصده في حوار هذا الوفد مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أهمية إحياء اللقاءات المورثة والمراجعات المصححة، التي تهذب النفوس وتسلم الطريق وتثبت الأقدام على طريق الله ورسوله، قوم قطعوا المفاوز والفيافي وجهدوا مع قلة المؤنة وبعد المسافة -ولم يضع ذلك سدى كما بشرهم النبي- ليلتقوا برسول الله وهم قد آمنوا وأسلموا قبل مجيئهم على رسول الله، لكن الأخذ منه واللقاء به وعرض الحال والواقع عليه لا يستغنى بغيره عنه، فمن البيعة على الإسلام، والدخول في حد الصحبة برؤيته على قيد الحياة، وتلمس الأقوال والأفعال ولحظهم الهدي النبوي مدة بقائهم معه، وتلمس المدينة وأجوائها، والصحابة وآثارهم أمور ترصدها الجوارح ويوقنها القلب وتعيها العقول، لا تتم إلا بهذه اللقاءات ولا تسد فجوات الأزمان والأماكن إلا من خلالها، ولذلك حمل الحوار كثيرا من الأسئلة ومن ثم الوصايا التي تبصر القريحة والبصيرة بمشربها وعذب منهجها، وهذا لا ينفع معه لقاء عبر الأثير ولا بالمراسلات البعيدة بل باللقاء، واللقاء وحده.

 

ثانيا: البعد عن المنهج الإلهي بوابة الاستعباد الأممي والحياتي:
 لعلنا ونحن نقرأ في جوابهم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما سألهم عن صنمهم "عم أنس" أو "عميانس" كما سمته بعض الروايات قائلا لهم: "وَمَا أَعْظَمُ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ؟" وكان جوابهم مع غرابته يوضح "كيف يكون مصير الأفراد والدول عندما تغييب عن المنهج الإلهي وتصنع صنمها بنفسها وتؤلهه من دون الله عز وجل!، وتقدم له قرابين ثرواتها وطاقاتها من أجل رضاه، وليته يرضى أو يملك نفعا أو ضرا لنفسه؛ فضلا عن غيره!
لقد كان القوم، (ويكون من يشاكلهم في كل زمان ومكان) أحوج لكل مال وقنطار زرع وإنتاج أرض وركاز معدن وسواعد صنع لبناء أمتهم، وللخروج من شدتهم، ولمجد حضارتهم، لكنهم -للأسف الشديد.. يرضون ذلا ويفتقرون عمدا ويجوعون كمدا، من أجل معبودهم وصنمهم الذي صنعوه بأيديهم، وما دلالة ذلك كله إلا البعد عن المنهج الإلهي الذي يعز أتباعه ويقوي سلطان أبنائه ويرفع من هامة أهله وممسكيه، فلا ترى بعد إلا استعبادا من الأفراد والدول والمؤسسات لمن فرط ورضي، وغيب عقله، وضيع هديه، ولبس خوفه. 

 

ثالثا: مصادفات الأقدار لأهل الباطل فتنة واستدراج:  

فقد قال وفد خولان عن صنمهم، "فَجَاءَنَا الْغَيْثُ مِنْ سَاعَتِنَا، وَلَقَدْ رَأَيْنَا الْعُشْبَ يُوَارِي الرِّجَالَ، وَيَقُولُ قَائِلُنَا: أَنْعَمَ عَلَيْنَا "عَمُّ أَنَسٍ" وقَالُوا: وَكُنَّا نَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ فَيَتَكَلَّمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تِلْكَ الشَّيَاطِينُ تُكَلِّمُكُمْ" نعم قد يجري الله سبحانه، من الأقدار المقضية في بعض الأحيان من المصادفات التي تأتي بالتزامن عند استجداء أهل الباطل أو عند الملاذ بهم، بل قد يجري الله أحيانا على يد الأصنام البشرية والأمم الظالمة والمؤسسات الطاغية الغاشمة صورا من الفوز وسبقا في التقدم وبهرجا من النعيم الحياتي، من الموافقات أو شبها من الخوارق ما تنطق بها شياطينهم وتصرف معه بعض أغراضهم فيُفتن بهذا كله أصحاب النفوس الضعيفة والأهواء المسمومة من المبعدين عن رحابة الشرع وتوجيهات المعتقد، أو من المنبهرين بأصداء الغرب ونموذج التحرر، تذكروا أن هاروت وماروت كانا يقولان لمن يغتر بهم "إنما نحن فتنة فلا تكفر" وأن الله عز وجل، يجري على يد المسيح الدجال من الخوارق ما يفتن به أتباعه ويثبت به أهل الدين، كما في صحيح مسلم عن رجل من أهل الإسلام :"فَيَقُولُ: أَنْتَ الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ، قَالَ: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُؤْشَرُ بِالْمِئْشَارِ مِنْ مَفْرِقِهِ حَتَّى يُفَرَّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، قَالَ: ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: قُمْ، فَيَسْتَوِي قَائِمًا، قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: مَا ازْدَدْتُ فِيكَ إِلَّا بَصِيرَةً" فيجب ألّا نفتن بهؤلاء حتى وإن جرت على أيديهم خوارق أو تصريفات، بل هو استدراج لهم وسرعان ما ترى خاتمتهم، فأنعم بجواب نبينا عليه الصلاة والسلام لهم بأن ذلك إنما هو نطق الشيطان على لسانهم، مما يعمق بصيرتنا ونزداد إيمانا بربنا ومنهجنا. 

 

وأخيرا: لا يصح مسير إلا بعد تمهيد وتطهير، ولا يرفع بناء حق إلا بهدم الباطل: 

فقد فهموا أن بقاء الباطل بينهم، ممثلا في صنمهم، ولو مكث عنده شيخان كبيران فقط، لا يستقيم مع وجوده الحياة، ولا يصفو في بيئتة عبق الإيمان وشذاه، لذلك "َرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَلَمْ يَحُلُّوا عُقْدَةً حَتَّى هَدَمُوا صنمهم

إن الموازنات التي يرفع لواءها الساسة والمفكرون والنخبة تصلح أحيانا في بعض الأمور التي لا تضر وجودا أو عدما، لكن لغة البتر قائمة في أحيان أُخَر، ولا يجدي غيرها بقية غير مكترث بها أو متهاون الشأن معها، قد تكون ثغرة يلج منها اهل الباطل غدا فتستفحل وتسترشي، لا تحل عقدة حتى تهدم صنمك وتحيي قلبك وتعلي بنيان منهجك.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة