10 وظائف حضارية للاعتكاف

الاعتكاف هو الإقامةُ في المسجد بنيَّةِ التقرُّبِ
إلى الله عز وجل. وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاعتكاف في العشر الأواخر
من رمضان. ففي صحيح البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبيَّ
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ، حتَّى
تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِن بَعْدِهِ. وليس
القصد من الاعتكاف أن ينعزل المسلم عن الناس وينقطع للعبادة الروحية فقط؛ بل يقصد منه
التربية والإعداد بما يسهم في تحقيق العديد من الفوائد التعبدية والحضارية. ومن الوظائف
الحضارية للاعتكاف ما يأتي:
1- بناء الإنسان الصالح:
يمنح الاعتكاف الفرد فرصة لمراجعة نفسه، فحين يختلي بها في المسجد؛ يقف على عيوبها، حيث إنه ما انقطع في المسجد إلا لعلاجها، وتنقيتها من شوائبها، ثم تحليتها بالفضائل، حتى تستقيم على طاعة الله وتلتزم بما أمر به وتنتهي عما نهى عنه، فإذا حدث ذلك فإن الاعتكاف يكون هو الأساس الذي يرتكز عليه الإسلام في بناء الإنسان الصالح، الذي يصبح بعد ذلك عنصرا فاعلا في البناء الحضاري النافع، إذ الحضارة تقوم على بناء الإنسان في المقام الأول، ثم تأتي بعد ذلك بقية الجوانب المادية.
2- التطوير الذاتي:
يسهم الاعتكاف في تعريف المسلم بحالته التي
يقف عندها، ثم يرى أقرانه من المعتكفين يسبقونه في أعمال الطاعات، أو يطالع برنامج الاعتكاف
فيجد أنه في حاجة إلى الارتقاء بنفسه والنهوض بذاته، ليكون مثل أقرانه، ويحقق الأهداف
التي يرجوها الاعتكاف منه، فيسارع بقراءة الكتب النافعة، أو يبادر بسؤال غيره
عن مراتب تربيتهم لأنفسهم، حتى يحذو حذوهم أو يقتدي بهم. بل إن الاعتكاف يمنح
المسلم فرصة التخطيط لمستقبله الشخصي والحضاري، من خلال الانفصال عن مشاغل الدنيا،
فيصبح ذهنه أكثر صفاء، واستعدادا لابتكار أفكار حضارية سامية، سواء ما يتعلق منها بالجانب
الشخصي أم المجتمعي. كما يسهم الاعتكاف في التطوير الذاتي للمسلم من خلال الإبداع
الفكري الذي يرتكز على تخصيص وقت للعصف الذهني وممارسة التأمل والتفكير
الاستراتيجي حول الأهداف أو المشروعات الحضارية.
3-التواصل الإيجابي:
يقوم الاعتكاف بتيسير عملية التواصل الإيجابي مع الآخرين،
حيث إن المعتكفين في المسجد يسعون جميعا إلى غاية واحدة، وهي إرضاء الله سبحانه
وتعالى ودخول جنته، وفي سبيل هذه الغاية يبذل كل فرد وسعه من أجل ألا يمنعه من الوصول إلى هذه الغاية مانع، ومن أبرز
الموانع التي تحجب الوصول إلى رضا الله وجنته: النزاع والتقاطع والتخاصم مع الآخرين،
لذا حث الإسلام على العفو والمغفرة بين الناس، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم
أهم دعاء في ليلة القدر هو أن يقول المسلم: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.
وإن عفو الله تعالى يكون لمن عفا عن الناس، وهذا العفو يؤسس للتواصل الإيجابي
مع الآخرين.
4- الضبط الأخلاقي:
يعزز الاعتكاف عددا كبيرا من القيم الأخلاقية، حيث يتعلم الصبر على العبادات، وعلى الطباع المغايرة له من الناس، كما يتعلم التضحية بالكثير من الكماليات التي تعود عليها في بيته، فهو يفترش الأرض في المسجد، ويتوضأ بالماء البارد، ويتعرض للأصوات القادمة من هنا وهناك فلا يكتمل نومه أو تهدأ جوارحه، كما يكتسب المعتكف خلق الانضباط والالتزام والتواضع وغيرها من الأخلاقيات التي تعود على الفرد والمجتمع بالخير والنماء.
5- خدمة المجتمع:
يؤدي الاعتكاف دورا مهما في خدمة المجتمع، حيث يقوم المعتكفون بالعديد من الأنشطة التي تخدم الناس، وذلك من خلال تنظيم جلسات تعليمية داخل المسجد لنقل العلوم والأخلاق بين المعتكفين، كما يتطوع المعتكفون في خدمة المسجد، لتنظيفه أو تنظيم فعاليات دينية مفيدة. بالإضافة إلى إطلاق مبادرات لدعم الفقراء والمحتاجين من خلال حملات تبرع أو توزيع وجبات إفطار على الصائمين في صلاة المغرب.
6- بناء القيادة المجتمعية:
يعد الاعتكاف مدرسة لإعداد القادة، حيث يُمنَح المعتكف فرصة للانضباط والتفكير العميق، بعيدا عن شغب الدنيا وأحداثها ومطامعها، مما يساعده في تطوير مهارات القيادة وحسن اتخاذ القرارات، كما يعزز الاعتكاف العديد من السمات القيادية في النفس، حيث يكتسب مهارات الانضباط وتنظيم الوقت وحسن توزيع الأدوار، وكلها مهارات تنعكس على حياة الشخص العملية والمجتمعية، مما يسهم في صناعة قادة مؤثرين.
7- نشر العلم والمعرفة:
يمكن للمعتكف أن يتعلم الكثير من فروع المعرفة
في فترة الاعتكاف، حيث إنه منقطع في المسجد للعلم والعبادة، ويتحقق ذلك من خلال تنظيم حلقات علمية داخل المسجد، سواء في تفسير القرآن، أو تعليم
اللغة العربية، أو مناقشة القضايا الفكرية والثقافية التي تهم المجتمع، وهو ما يؤدي إلى نشر المعرفة وتعزيز الوعي المجتمعي.
8- الإصلاح والترابط الاجتماعي:
يكشف الاعتكاف عن طبائع الأشخاص الموجودين في المجتمع، فالمعتكفون ما هم إلا أشخاص يعيشون في المجتمع، وتسهم الإقامة معهم في مكان واحد في التعرف على ميولهم واتجاهاتهم، مما يساعد في حسن التعامل معها، من خلال تهذيب بعضها، وإقرار الطيب منها، ورفض السيئ. كما يعزز الاعتكاف أساليب التعايش والتكافل النفسي والمجتمعي، مما يقوي الروابط بين الناس، ويعين على إقامة علاقات الأخوة الإيمانية التي تعود على المجتمع بالترابط والتلاحم.
9- تعزيز العمل الخيري:
يعين الاعتكاف على العديد من مظاهر العمل الخيري، حيث يمكن للمعتكفين تنظيم مبادرات لمساعدة الفقراء، أو جمع الصدقات للأعمال الخيرية، أو غيرها من المساعدات المادية، ويضاف إلى ذلك ما يقوم به المعتكفون من إقامة الحلقات التعليمية في جميع فنون المعرفة، حسبة لله تعالى، مما يجعل المعتكف يخرج في نهاية المدة وقد اكتسب العديد من المهارات التي تعينه في مواجهة الحياة والنهوض بها.
10- التربية على الزهد والبساطة:
يعد الاعتكاف فرصة للتربية على البساطة والزهد، فالمعتكف يملك القدرة على الإسراف في الإنفاق، والنوم في أرقى الأماكن، لكنه يتنازل عن ذلك طواعية، من أجل تربية نفسه على الاكتفاء بالقليل مع القدرة على التمتع بالكثير، ويسهم هذا في الحد من الاستهلاك، وتعظيم الموجود والانتفاع به، وهي قيم حضارية تحتاج إليها الأمة الإسلامية في رحلة النهوض والبناء.