إجازة الربيع.. فرصة لتجديد الأرواح وبناء الجسور مع الأبناء

عثمان الثويني

15 يناير 2025

6581

في زحمة الأيام وصخب الحياة، حيث تتلاحق الساعات دون أن ندرك كم فقدنا من لحظات ثمينة، تهبّ علينا إجازة الربيع كأنها نسمة ناعمة تحمل معها وعدًا بالتغيير وفرصة للتقارب مع أبنائنا، إنها ليست مجرد استراحة من الدراسة والمهام اليومية، بل لحظة للتوقف، لإعادة ترتيب أولوياتنا، والإنصات لما تخفيه قلوب أطفالنا خلف ضجيج الحياة.

الإجازة فسحة تُهدى إلينا لتصفية ما شاب علاقاتنا من شوائب الضغط الدراسي والروتين، فمن منا لم يشعر في خضم الجداول المكتظة والمهام المتراكمة أن ثمة مسافة قد نمت بيننا وبين أبنائنا مسافة لا تُقاس بالأمتار، بل بلحظات الصمت التي لم نشارك فيها أحلامهم، وبالأسئلة التي طرحوها على استحياء دون أن ننتبه لها، الآن وقد توقفت عجلة الدراسة، حان الوقت لنجلس معهم، ليس كمعلمين أو موجهين، بل كأصدقاء يحملون لهم الحب والصبر.

الأبناء لا يحتاجون منا دروسًا أو نصائح طوال الوقت، بل يتوقون إلى قلوب تنصت لهم بلا حُكم، وأيدٍ تمتد لتربت على أكتافهم حين يشعرون بالتعب، جرّب أن تسأل ابنك عما يشعر به، لا عما أنجزه، امنحه تلك اللحظة التي يجد فيها أنه ليس مضطرًا لتقديم إجابات صحيحة، بل أن يكون فقط على طبيعته، في تلك اللحظات، تُزرع بذور الثقة، وتُبنى جسور المحبة التي تمتد لعمر طويل.

ولا شك أن الإجازة فرصة لتخفيف آثار الضغوط النفسية التي خلفتها الدراسة، كم من الأبناء يشعرون أن العالم يُقيمهم وفق درجاتهم المدرسية فقط، دون الالتفات إلى ما يحملونه من مواهب وأحلام؟ هنا يأتي دورنا كآباء لنذكرهم بأن قيمتهم لا تُختصر في أرقام، وأن أحلامهم أثمن من أن تُقيد بمعايير الآخرين، يمكننا أن نشاركهم الحديث عن تجاربنا، عن إخفاقاتنا التي قادتنا إلى نجاحات، وعن الأيام التي ظننا فيها أن الفشل هو النهاية، فإذا به بوابة لبداية أجمل.

وفي ظل هذا الوقت الذي يمتد بيننا وبينهم، يمكننا أن نرسم ذكريات لا تُنسى، رحلة برية تحت سماء النجوم، جلسة إعداد وجبة عائلية تحمل في رائحتها دفء الألفة، أو حتى لحظات من السكينة نقضيها معًا في قراءة كتاب يحمل حكمة عابرة للأزمان، هذه اللحظات ليست مجرد أوقات فراغ، بل اللبنات التي نبني بها أرواح أبنائنا.

لكن الإجازة ليست فقط للاستماع والترفيه، بل أيضًا فرصة لصقل النفوس، الأطفال كالطين في أيدينا، يمكن أن نغرس فيهم قيمًا ستظل معهم مدى الحياة، علمهم معنى العطاء من خلال المشاركة في عمل تطوعي بسيط، أو أرهم كيف يمكن للإنسان أن يكون صبورًا ومجتهدًا من خلال تعلم مهارة جديدة معًا، دعهم يروا فيك القدوة، فإن الأفعال أكثر بلاغة من الكلمات.

الإجازة أيضًا لحظة لإعادة النظر في أنفسنا كآباء وأمهات، هل كنا طوال العام مجرد موجهين ومنتقدين؟ هل أعطينا أبناءنا مساحة كافية ليعبروا عن أنفسهم؟ أحيانًا، قد تكون أعظم هدية نقدمها لهم هي الاعتراف بأخطائنا وطلب العفو إذا قصرنا في حقهم، إن الإجازة ليست وقتًا لإلقاء اللوم، بل لإصلاح ما يمكن إصلاحه، ومد جسور جديدة من الثقة والمحبة.

وفي خضم هذه الرحلة، لا تنسَ أن تمنحهم الحرية التي تُشعرهم بالثقة، حرية أن يختاروا هواياتهم، أن يعبروا عن أفكارهم، أن يُخطئوا ويتعلموا من أخطائهم، لكن هذه الحرية لا تعني الانفلات، بل تعني التوازن بين القواعد المرنة والمحبة الثابتة التي تجعلهم يشعرون بالأمان.

الإجازة ليست مجرد فترة زمنية تنقضي، بل فسحة نعبر من خلالها نحو قلوب أبنائنا، إنها موعد مع الحب الذي يتجدد، ومع الجروح التي تلتئم بالصبر والتفاهم، حين نغتنم هذه الفرصة، نزرع في أبنائنا بذورًا ستنمو معهم إلى الأبد، وتبقى ثمارها شاهدة على تلك الأيام التي استعدنا فيها نبض العائلة.

فلنتذكر أن الأبناء لا يحتاجون منا الكمال، بل القرب، دعونا نكن لهم سندًا، ومرفأ يعودون إليه حين تتقاذفهم أمواج الحياة، في نهاية هذه الإجازة، لن نحصد فقط ذكريات جميلة، بل سنكون قد وضعنا حجرًا جديدًا في بناء قلوبهم، ورسمنا ملامح جيل أقوى وأكثر تماسكًا، حينها، سنعرف أن الإجازة لم تكن مجرد استراحة، بل كانت بداية لرحلة عائلية ممتدة، لا تنتهي بانقضاء الأيام.


كلمات دلاليه

تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة