«نسيمات الخزامى» و«نعمتي» و«العشاء يالربع».. دروس وعبر!

في لحظات الشدة، تتجلى قيمة النعم التي نعيشها يوميًا دون أن نشعر بها، أذكر جيدًا تلك الأيام العصيبة في أغسطس 1990م، عندما لجأ مئات الكويتيين إلى القرى السعودية هربًا من ويلات الغزو العراقي، هناك، في مركز الإمارة، صدح صوت العسكري عبر المكبر: «العشاء يالربع العشاء!»؛ ليصطف الجميع حاملين أكياسهم، منتظرين وجبة مكونة من دجاجة مسلوقة بالماء وقليل من الأرز، كان المشهد مزيجًا من الجدية والمرح، وسط هرج وصخب وصوت الأوامر العسكرية، بينما كان الجميع يدركون أن هذه الوجبة البسيطة تعني الفرق بين الجوع والشبع في تلك الأيام الصعبة، كانت تجربة قاسية لكنها علمتنا كيف نقدر ما بين أيدينا من رزق، وكيف أن الطعام، الذي قد لا نلقي له بالًا أحيانًا، هو شريان حياة لآخرين يحتاجون إليه بشدة.

تذكرت تلك الأيام عندما زرت مبادرة «نعمتي» في مدينة فهد الأحمد، وهو مشروع رائع أطلقه السيد الفاضل محمد المزيني، يستهدف الحد من هدر الطعام عبر استلام فائض الوجبات من الطائرات بالتعاون مع الخطوط الجوية الكويتية، حيث يتم استلام الوجبات غير المستخدمة التي كانت مخصصة للمسافرين، ثم إعادة فرزها وفق معايير السلامة والجودة قبل توزيعها على الأسر المتعففة.

لا يقتصر المشروع على وجبات الطائرات فقط، بل يشمل أيضًا كميات الأغذية المسترجعة من الجمعيات التعاونية، التي تعود إلى الشركات الموردة بسبب قرب انتهاء صلاحيتها أو عدم تصريفها تجاريًا، رغم أنها لا تزال صالحة للاستهلاك، هذه المبادرة لا تعمل فقط على تقليل الهدر الغذائي، بل توفر أيضًا مصدرًا غذائيًا مستدامًا لمئات الأسر التي تعاني من ضيق الحال، وهو ما يجعلها نموذجًا فريدًا لمشاريع التكافل الاجتماعي التي تمزج بين الاستدامة والمسؤولية الإنسانية.

تعرفت على هذه المبادرة خلال مسابقة «نسيمات الخزامى»، التي نظمها التوجيه الفني لمادة التربية الإسلامية بقيادة الأستاذة الفاضلة فاطمة الزير، التي لم تدخر جهدًا في توسيع نطاق هذه المسابقة لتشمل مؤسسات مجتمعية كثيرة، وبالتعاون مع التواجيه الفنية الأخرى، وعلى إشراك مؤسسات المجتمع المدني لضمان انتشار أوسع وتحقيق تأثير أكبر.

المسابقة لم تكن مجرد حدث تنافسي بين الطلبة، بل كانت فرصة ذهبية لتعزيز قيم العطاء والتراحم بينهم، حيث شاركوا بكل حماس في تجهيز الأطعمة وتوزيعها على المحتاجين، مستشعرين الأجر العظيم وراء هذا العمل الإنساني، كثير من الطلبة عبّروا عن سعادتهم الغامرة بالمشاركة، وشعروا بأنهم يؤدون دورًا مهمًا في خدمة مجتمعهم؛ ما يعكس أهمية زرع ثقافة التطوع والعطاء في نفوس الأجيال القادمة.

الأمن الغذائي في الكويت.. التحديات والحلول


على الرغم من الدعم الكبير الذي تحظى به مبادرة «نعمتي» من مؤسسات رائدة، مثل: بنك بوبيان، والهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، فإنها لا تزال بحاجة إلى المزيد من الانتشار والتوسع، فعدد الأسر المحتاجة يفوق بكثير حجم التغطية الحالية، وهناك العديد من المناطق التي لم تصلها هذه المبادرة بعد، من الضروري أن تتبنى الجمعيات الخيرية والمؤسسات الرسمية هذا المشروع ليصبح جزءًا من منظومة متكاملة للحد من هدر الطعام وتعزيز التكافل المجتمعي، كما أن التوعية بأهمية هذه المبادرة يجب أن تصل إلى شرائح أوسع من المجتمع، سواء من خلال المدارس والجامعات أو عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لتحفيز الأفراد والشركات على التبرع بفائض الطعام بدلًا من التخلص منه.

إن توحيد الجهود بين المؤسسات الحكومية والخاصة يمكن أن يخلق شبكة دعم واسعة، تسهم في تحقيق الأمن الغذائي لمئات الأسر المحتاجة.

تجربة الطلبة في هذه المبادرة كانت مليئة بالسعادة والرضا، فقد لمسوا بأيديهم معنى العطاء، واكتشفوا كيف يمكن لفائض الطعام أن يصبح نعمة بدلًا من أن يكون نفايات، كثير منهم غادروا المكان بروح جديدة وإحساس عميق بالمسؤولية الاجتماعية، بعدما رأوا كيف يمكن لجهود بسيطة أن تحدث فرقًا حقيقيًا في حياة الآخرين.

إن مثل هذه التجارب تزرع في نفوس الشباب روح التعاون والتكاتف، وتؤكد أن العطاء ليس مجرد تبرع بالمال، بل يمكن أن يكون بمشاركة الوقت والجهد والموارد في سبيل الخير، فهل حان الوقت لنحول جميعًا فائض النعم إلى فرصة لإسعاد الآخرين؟


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة