إستراتيجية الدولة الوطنية الديمقراطية العادلة.. تفكيك الإقصاء وبناء التعددية التشاركية

بين الجمود والتغيير.. كيف تصنع الأمم نهضتها؟

بين إستراتيجية الصمود والصعود الفلسطينية، وإعادة تدوير الموت بتقسيم الشعب، بعد قرن من «وعد بلفور» بتقسيم الأرض، تطل علينا الأمم التي تخشى التغيير عالقة بين جدران الماضي؛ تكرر نفسها دون تقدم، فيما الأمم التي تعمل على التحولات العنيفة تفقد استقرارها قبل أن تحقق غاياتها؛ فالتغيير عملية مركبة، ليست هدمًا فجائيًا ولا محافظةً جامدة، بل هي بناءٌ متدرج يستند إلى وعي بالماضي واستثمار للحاضر وصولًا إلى استشراف للمستقبل؛ أي أن التحول الحقيقي لا بد أن يكون نابعًا من الداخل الشعبي، قائمًا على استعادة الوعي واستنهاض الإمكانات البشرية المعطلة، وتحرير الكفاءات المعتقلة.

فحين يُصبح الفكر أسير التقليد تتوقف العقول عن الإبداع؛ وحين يُصبح الواقع رهينة الاستبداد تتجمد المجتمعات؛ وعندما تفقد الأمة قدرتها على استيعاب التغيرات من حولها تتحول إلى تابعة لا صانعة؛ ولذلك فإن تجاوز الأزمات لا يكون بالقطيعة المطلقة مع التراث، ولا بالتبعية المطلقة لثقافة الآخر، وإنما بإعادة بناء الذات وفق رؤية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتعيد توجيه المسار نحو نهضة قائمة على العدل والتعددية والشراكة المجتمعية المسؤولة.

من أزمة الفكر العربي إلى أزمة المشروع العالمي

لا يخفى على عاقل أن أي مشروع نهضوي لا ينطلق من معالجة الأزمة الفكرية يصبح هشًّا أمام التحديات؛ النهوض يبدأ بتحرير العقول من قيود التقليد العقيم، واستعادة الدور الريادي للفكر في تشكيل الوعي العام؛ فالمشكلة ليست فقط في وجود عوامل خارجية تعرقل النهوض، بل في القابلية الداخلية التي تجعل المجتمعات تستسلم لهذه العوائق، سواء عبر التبرير للاستبداد أو من خلال التسليم لهيمنة أنماط فكرية واقتصادية وسياسية مفروضة عليها، أو باستنساخ مسميات ومصطلحات، أو بتبني الخوف من الإسلام في الداخل العربي، والخارج العالمي.

إذا كانت أزمة العالم العربي تكمن في الاستقطاب بين توجهات متشددة تحاصر حرية العقل، وبين تيارات تكرّس التبعية وتُفرغه من هويته، فإن الحل لا يكون في الانحياز لأحد الطرفين؛ بل في تجاوز هذه الثنائية نحو رؤية متكاملة، تنطلق من فهم الواقع، وتبني منظومة فكرية وسياسية جديدة، تستعيد فيها الأمة سيادتها على قرارها ومسارها، نحو عالمية الإسلام، كرسالة حضارية وإنسانية تتجاوز الزمان والمكان، وتؤسس لمنظومه فكرية عالمية.

إعادة توجيه المشروع الحضاري

فالتحولات الفكرية الكبرى تبدأ بتغيير التصورات الأساسية التي تحكم وعي الأمم بذاتها؛ العالم الإسلامي في سياقه التاريخي ظل يتمحور حول مركزية «دار الإسلام» بوصفها الحاضنة الشرعية للدين والحضارة، لكن مع التغيرات الحديثة والتحديات التي فرضها الاستعمار والتبعية، لم تعد هذه الثنائية كافية لتفسير الواقع الجديد.

لذا، نرى أن الانقسام بين «دار الدين» و«دار الدعوة» يعكس إعادة فهم دور الأمة في هذا الزمن؛ فـ«دار الدين» هي الأرض التي نشأت فيها الرسالة، حيث تشكّلت مجتمعاتها وهويتها ضمن إطارها الحضاري الطبيعي، بينما «دار الدعوة» هي الفضاء الأوسع الذي يتفاعل فيه الإسلام مع العالم، ليس من منطلق الهيمنة، بل من منطلق التكامل الحضاري والتأثير الإيجابي؛ هذا التحول من التصنيف الصلب إلى التصنيف المرن يمنح الأمة رؤية أكثر انفتاحًا على دورها العالمي، إذ لا يمكن أن تظل دول العالم الإسلامي حبيسة صراعات داخلية، أو مستنزفة في معارك إقصائية، أو في خطة إعادة احتلال، أو إعادة تدوير الموت بين البلاد، بينما العالم يتحرك في اتجاهات جديدة تعيد تشكيل مراكز القوة والنفوذ.

معوقات التغيير التدريجي الإصلاحي الرشيق في العالم العربي:

1- السلطة المطلقة وتغييب التوازنات السياسية: غياب التعددية الحقيقية يولد أنظمة حكم لا تقبل الشراكة؛ فتُقصي القوى المختلفة وتحصر القرار في أيدي نخبة ضيقة، مما يؤدي إلى تعطيل التنافس السياسي الصحي، ويكرّس الجمود؛ حين يتحول الحاكم إلى المصدر الوحيد للشرعية تتقلص فرص الإصلاح، إذ تصبح أي محاولة للتغيير تهديدًا للسلطة بدلاً من أن تكون تطويرًا للدولة.

2- الإقصاء السياسي والاجتماعي: في النظم التي تهيمن فيها رؤية واحدة يُحرم جزء كبير من المجتمع من المشاركة في صنع القرار، سواء لأسباب سياسية أو فكرية أو دينية أو طبقية؛ هذه الأنظمة تعيد إنتاج الأزمات بدلًا من حلها، حيث تُبقي على حالة استقطاب دائم يضعف أي محاولة للوصول إلى توافق وطني جامع، والذي يمكن استبداله بتعددية سياسية وتشاركية وطنية جامعة.

3- أزمة التعليم وإنتاج المعرفة: فالتغيير الرشيق لا تتحقق في بيئة تعليمية تكرّس التلقين بدلاً من التفكير، أو تنظر إلى العلم كوسيلة وظيفية بحتة دون أن يكون أداةً لصياغة مشروع حضاري متكامل يشترك فيها الإسلامي والعلماني واليساري وكافة التيارات والأيدولوجيات والمشارب؛ فالأمة التي لا تنتج المعرفة تصبح مستهلكة لما يُصدره الآخرون، فاقدة لأي سيادة ثقافية أو فكرية، علمية كانت أو عملية.

لذا، فإستراتيجية التغيير الرشيق قوامها تفكيك الإقصاء وبناء التعددية التشاركية الوطنية، التي ترتكز على:

1- تفكيك منظومة الإقصاء والاستبداد: إعادة تعريف الدولة الوطنية العادلة وفق مفهوم الشراكة وليس الاحتكار؛ وتعزيز التعددية السياسية، والتشاركية المجتمعية، بحيث لا يكون الحكم حكرًا على نخبة معينة، بل شعب له من يمثله؛ حيث يكون الفعيل لآليات المساءلة وضمان سيادة القانون واستقلال القضاء والعدالة أصل وعقيده للدولة الوطنية.

2- بناء منظومة فكرية متجدده: تنطلق بتحرير التعليم من التلقين إلى التفكير النقدي والإبداعي؛ فتحديث الفكر الديني بما قدمه المجددين، وسيقدمه العلماء والمفكرين، بعيدًا عن الجمود أو التبعية للسلطة؛ لتجاوز التبعية الفكرية، والتعامل مع التجارب العالمية كمصدر معرفة، لا كنموذج يُفرض على المجتمعات دون اعتبار لخصوصياتها الثقافية والاجتماعية.

3- تطبيق الحوكمة الرشيدة والعدالة الاجتماعية: يوجب علينا ضبط العلاقة بين السلطة والمجتمع وفق نموذج الحوكمة الرشيدة؛ لإعادة توزيع الثروة البشرية والوطنية بشكل عادل لمنع التفاوت الطبقي الذي يُنتج بيئات غير مستقرة سياسيًا ومجتمعياً؛ وهو ما يتحقق بتمكين المجتمع المدني ليكون شريكًا في التنمية بكياناته المؤسسية من نقابات وروابط وأحزاب ومنظمات فاعله.

رؤيتنا للدولة الوطنية العادلة

إنها ليست ساحةً لصراع الهويات، بل مساحةٌ لاحتضان الجميع والمجتمعات، حيث التعددية ليست استثناءً في الحكاية بل قاعدة وأساس للإنجازات؛ والمشاركة ليست امتيازًا ممنوحاً بل حق مشفوعا بالوجوب؛ والقانون فيها ليس أداةً بيد السلطة، بل ميزانٌ يضبط الحقوق؛ والعدالة فيها ليست شعارًا، بل ممارسةٌ تُترجم إلى سياساتٍ مجتمعية يومية

لا بد لنا أن ندرك أن التحولات لا تحدث دفعةً واحدة، بل تتراكم كقطرات الماء التي تنحت الصخر ببطء؛ والسياسة لا تُدار بمنطق الفرض والفوضى، بل بحكمة التدرج؛ وعليه فالتغيير الرشيق المنشود ليس انتظارًا للحظة انفجار، بل صناعةٌ مستمرة لمعادلة التوازن بين الثبات والتطور، دون هدم للمنازل، واقتلاع للأشجار، ولا بتجريف تربة، ولا بتدمير بنية تحتية، وبمشروعات اقتصادية وهمية؛ لكنه غرس المواطن الذي يترسخ في أرضه، ويمتد بجذوره تدريجيًا عبر تاريخه، ماضيه وحاضره ومستقبله.

لقد قيل في الأثر: «الإنسان أو الموت»؛ فإن كان هناك من رفع شعار «الوطن أو الموت»، فإن هناك من جسّد في واقعه «الإنسان أو الموت»؛ وأكد أن التحرر ليس مطلبًا اقتصاديًا، ولا مشروعًا تفاوضيًا، بل هو مسألة وجود؛ بين الاستقلال والتبعية، وبين الحرية والخضوع، لا خيار سوى النضال لاستعادة الحقوق، وعدم القبول بأن تتحول الأوطان إلى ملفات تُدار في أروقة المصالح الدولية، لتكون النهضة القادمة بناء للداخل، وتأسيس لمجتمع قادر على استعادة ذاته وتحقيق استقلاله الفكري قبل السياسي فالمجتمعي، فهل سيكون النهوض؟






_____________________

خبير مشروعات إستراتيجية.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة