دعوة للإنجاز في وقت الأزمات (9)
تقاطعات الأزمات وصناعتها للإنجازات

لا شك أنه ما من أزمة تحُل بالمسلم إلا ويكون لها تأثير عليه
سواء سلبي أو إيجابي، والمسلم كونه مطالبا بالسعي وعدم اليأس، فإنه يبذل قصارى
جهده لمواجهة التحديات والمشاكل لصناعة المنحة من رحم المحنة.
دوائر الأزمات وتقاطعاتها لتفريخ الإنجازات:
إن الدوائر التي تنتج عن سقوط حجر في بركة ماء، يتسع محيط
مداها ليصل إلى أبعد طرف في البركة، وكذلك مع الأزمة، فدوائرها تتقاطع مع دوائر
أخرى موجودة مع أنماط حياة البشر، ودوائر أنماط حياة البشر تتعدد وفق ما يلي:
1- دائرة الأزمان: زمن وقوع الأزمة تاريخيا.
2- دائرة الهموم: ما يشغل كل إنسان على كوكب الأرض من هموم.
3- دائرة الإدراك: سعة ما يطّلع عليه الإنسان من علوم ومعارف.
4- دائرة القيم: ما يؤمن به الإنسان ويمارسه من قيم.
5- دائرة الأدوات: عبر ما هو متوفر من أدوات في محيط عيش الإنسان.
6- دائرة نوع الأزمة: إن كانت صحية أو اقتصادية أو سياسية... الخ.
فدائرة الأزمان، معنية بتاريخ وقوع الأزمة، مثل ما تعرضت له
الأمهات في أوروبا من توفر حليب الأمهات لإطعام الرضع من الأطفال في القرن الثامن
عشر، ما حفز شركة نستله لاختراع حليب صالح للأطفال.
دائرة الهموم، وهو ما يشغل كل إنسان على كوكب الأرض من هموم،
ومحيط الهموم يبدأ من تلبية الحاجات الأساسية، وفق ما جاء في هرم ماسلو، للنمو نحو
شغف الإنسان للذات، فقد يعزز للأنانية، وقد يرتقي الهم نحو تنمية قدرات الأسرة
فالمجتمع، وهكذا حتى يصل للإنسانية جمعاء.
فإدراك سيدنا يوسف عليه السلام، على سبيل المثال، فاق إذ وُهب
تفسير الاحلام، وهو ما جعله أداة لدعوة ملك مصر للدين، فنطاق الإدراك ودرجاته
تختلف من عصر إلى عصر آخر، غير أن العلم والعلماء هم الأوفر حظا في الإدراك، وعليه
يكون الأوفر علما أوفر إدراكا.
فالأدوات ترتبط بالمكان الذي تكون عليه في الأرض، فما هو متاح
في بلد متقدم من أدوات يختلف عما هو متاح لدى سكان صحراء أو قرية نائية.
الأدلة التاريخية والقرآنية:
وتاريخيا نلاحظ كيف ذلل نبينا سليمان الأدوات المتاحة له عبر
الجن في بناء الصرح وجلب بلقيس، ومع موسى ذلل العصا في أزمته مع فرعون، ويوسف ذلل
تفسير الأحلام في تواصله مع ملك مصر، في حين كانت أدوات رسولنا الكريم أمام أزمته
مع الكفار بحفر الخندق بأدوات تقليدية كانت في المعاول.
دائرة القيم ما يؤمن به الإنسان ويمارسه من قيم، فبمجرد الإيمان
بالقيم الإنسانية لا يعني أنك ممارس لها، فالقيم تحتاج إلى تفعيل وتشغيل عبر ممارستها
كي تصبح واقعا، فهذا الذي يؤمن بأهمية قيمة الأمانة ولكنه يسرق هو غير ممارس لها.
دائرة نوع الأزمة: إن كانت صحية أو اقتصادية أو سياسية... الخ،
فالأزمات تتعدد مصادرها وعوائدها، وما فيروس كورونا عام 2020 إلا جائحة صحية
عوائدها نالت الاقتصاد كذلك، والربيع العربي سياسية، وهكذا.
غير أن التقاطعات بين الأزمات طبقية، فمن الممكن أن تتقاطع في
نفس الوقت ست طبقات مجتمعية، وقد تتقاطع فقط ثلاث طبقات، وهو ما يعتمد على سعة
إدراك الأفراد الراغبين في الاستفادة من الأزمة لتحويلها لمنتجات ومشاريع.
العلاقة بين تقاطع والإنجاز:
جميع تلك التقاطعات تتغير مساراتها بتغير المدى الزمني
للأزمة، فمع اللحظة التي تجتمع فيه تلك التقاطعات، يزيد معدل الوضوح في مسار
الإنجاز، ليصب في منتج أو مشروع منجز، ويتسع نطاق الاستفادة من اللحظة التي فيها
تتقاطع باتساع دائرة الهم الذي تحمله ودائرة القيم، وبلا شك سيكود لدائرة الإدراك
ما يخفض من التكاليف المالية للإنجاز.
فمما يقلص تكاليف الإنجاز اعتماد قيم التكامل مع الغير،
والابتعاد عن سلوك التفاضل، فتجتهد في التعرف على من يمكنك أن تتحالف معه أو تشركه
معك لما يتمتع به من تخصص، أو ما يملكه من حرفة أو مؤسسة فتختزل الزمن وتعظم
الفائدة باحتراف، وكذلك مع دائرة الإدراك فتقليص نفقات الإنجاز سيعتمد على مساحة
اطلاعك وعلمك بمصادر المعلومات وجلب الخدمات ومراكز الأبحاث.
أمثلة من الواقع:
فالمتخصص مثلا في مجال علمي أو مهني:
كالهندسة المعمارية، كيف يمكنه أن يصمم مباني قادرة على تأمين
تواصل آمن فيما بين السكان لتلبية احتياجاتهم في ظل منع تجول لجوائح صحية
مستقبلية؟
والمتخصص الإلكتروني والميكانيكي مع الصناعي، سيبحثون في كيف
يمكن أن يعزز التواصل في تأمين إيصال ما يرغب به كل سكان منزل، دون الحاجة إلى
الاستعانة بوسائل التوصيل التقليدية.
والاقتصادي سيبحث بأساليب بديلة عن تدشين منتجعات أو فنادق،
فتلك مسارات تستوجب التجمع، فما البدائل التي يمكن أن تحقق عوائد للترفيه غير تلك
التقليدية؟
بيئة الأزمات محضن إيجابي للإنجازات
درجات الأزمة وآثارها:
وثمة درجات مع كل أزمة، فمع أزمة كورونا عام 2020 كانت
الحاجات الأولى محورها:
1 - تعقيم الأجواء.
2- تأمين مستشفيات ومستلزمات الاستشفاء.
يليها درجة تالية:
1- تأمين الطعام والسلع في حين توقفت حركة التجارة
والمواصلات.
2- حث البشر بالتزام بيوتهم وعدم الاختلاط.
يليها درجة تالية:
1- أساليب مستحدثة لتأمين موارد جديدة للبلاد.
2- الخروج من أزمة اقتصادية تجتاح البلاد والعالم.
الآثار المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد:
• الجولة الأولى: تؤدي الاختلالات في جانب العرض والعدد
الكبير من القتلى إلى زيادة عدم اليقين والذعر لدى الأسر والشركات.
• الجولة 2: تزايد عدم اليقين والذعر يؤدي إلى انخفاض
الاستهلاك والاستثمار.
• الجولة 3: انخفاض كبير في الطلب يجفف التدفقات النقدية
للشركات، ويؤدي إلى إفلاس الشركات.
• الجولة 4: تسريح العمال والشركات الخارجة تؤدي إلى ارتفاع حاد في
البطالة.
• الجولة 5: ينخفض دخل العمل بشكل ملحوظ وتزداد القروض
المتعثرة، مما يضعف الطلب ويزيد من عدم اليقين.
العودة إلى الجولة 2 لحلقة أخرى!
من المحتمل أن تكون الآثار غير المباشرة من 2 إلى 5 كبيرة
جدًا ولكن غير مسبوقة بالمعايير التاريخية ترتبط تكلفة الاقتصاد الكلي الرئيسية
باستراتيجية قمع لحل الأزمة الصحية.
فكرة الإنجاز: إن فكرة أي انجاز تتلون بنوع الأزمة، فمع أزمة
كورونا نجد أن فكرة الإنجاز ستتمحور كأولوية حول:
أ- التحصين: تحصين المجتمع من أن يصله الفيروس.
ب- التمكين: تمكين المواد الأساسية كي يزاول المجتمع حياته
بشكل مقبول.
ت- تقليص الزمن: تقليص زمن الأزمة.
وتأتي دوائر القيم، كي تعمل كعامل مساعد في دفع عملية
الإنجاز، مثل تفعيل قيم التعايش والتكامل والتعاون والتآزر، فلعل المنتج أو
المشروع الذي سيقترح يحث الأفراد ومتخذي القرار في الشركات ومؤسسات الدولة لممارسة
تلك القيم كفرض لما تدعو إليه الحالة المجتمعية.
مراحل الخروج من الأزمات بإنجازات
من الأزمة إلى التطور والتقدم:
فمع فكرة التمكين لتأمين حاجيات السكان وهم في منازلهم، لعلنا
نسأل كنهج في التوصل لإنجاز، هل يمكننا تأمين المواد الغذائية الأساسية للمنازل في
نفس أسلوب الماء والكهرباء وخدمات الجوال والإنترنت؟
ولعل مادة غذائية واحدة في البداية لتتبعها بعد ذلك مواد
أخرى، ولنختر على سبيل المثال "الحليب"، فهل يمكن تأمين الحليب بشكل
يومي دون الاستعانة بموصلين؟
هل يمكن الاستفادة من شبكة إيصال المياه لإيصال الحليب؟
هل بالضرورة أن يكون للحليب شبكة أصلا؟
هل بالإمكان استخدام الحليب على هيئة "بودرة" عوضا
عن أن يكون سائلا كي نستخدم شبكة المياه لمزج كم ما نحتاج إليه من حليب يومي مع
وارد الماء في الصنبور الذي هو متاح في كل منزل؟
هل يمكن عمل ما يشبه خزان للحليب المجفف في كل منطقة، ويتم
استلهام عملية إيصال الحليب المجفف في نفس آلية إيصال العبوات في بعض المصانع
والمستشفيات من مبنى إلى مبنى آخر عبر أساليب شفط الهواء؟
هل بالإمكان استغلال سيارات روبوتية لتعبئة خزان عام في كل
حي، بذات شاكلة مركبات القمامة التي تأتي يوميا لإزالة القمامة من الحاويات؟
إذن ثمة مسارات يمكن أن تكون محل نقاش فيما بين مجموعة جهات
لتذليل ذلك عبر أساليب من التكامل.
إن الإسلام علمنا أن تكون حياتنا جملة من الأعمال، المنجزات
فيها أكثر من الأعمار، وتأملوا هذا الحديث العظيم في الحث على الإنجاز إلى آخر
لحظة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إن قامت الساعة وفي يد
أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها".
والمتأمل لهذا الحديث سيسأل نفسه، ما المفيد في غرس نخلة
والساعة تقوم؟ ليجد أن الجواب ليس إلا التعود على العمل والإنجاز إلى آخر لحظة،
واحتساب الأجر في ذلك.