التغافل الحكيم مفتاح استقرار الأسرة

حين تجتمع الأرواح في بيت واحد، تتشابك المشاعر كما تتشابك الأيدي في دعاءٍ صادقٍ على مائدة العائلة، فالأسرة كيان حيٌّ نابضٌ، يشتدّ برباط المودة، لكنه لا يسلم من العثرات، ولا يخلو من الهفوات، وهنا تتجلى قيمة التغافل، ذلك الفنّ العميق الذي يحفظ التوازن بين الحزم واللّين، بين العتاب والتسامح، وبين التصحيح والتجاوز.

الزواج ليس ميدان معركة تُحصى فيه الزلات، ولا ميزانًا حساسًا تُقاس عليه الكلمات بحسابٍ صارم، بل هو مساحة أمان يُسمح فيها للأخطاء الصغيرة أن تمرّ دون ضجيج، وللتصرفات العابرة أن تُدفن في ذاكرة المغفرة، قال الإمام أحمد بن حنبل: «تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل»، فالتغافل هنا ليس ضعفًا، بل إدراك أن الكمال محال، وأن المثالية المفرطة تقتل الحبّ في مهده، حين يُدرك الزوجان أن التجاوز عن زلات بعضهما هو ما يجعل الحياة أيسر، وتصبح العلاقة أكثر دفئًا وسكينةً، فلو تعلّق كلٌّ منهما بكلّ هفوةٍ؛ لتحوّلت الحياة إلى صراع لا نهاية له.

من منظور علم النفس، يشير مفهوم «التفسير الإيجابي للأحداث» إلى ميل الأشخاص السعداء إلى تأويل تصرفات الشريك بظروفه بدلاً من سوء النية، فالزوجة التي تلاحظ انشغال زوجها في الهاتف لا تفترض مباشرة الإهمال، بل قد تتغافل عن ذلك، وتدرك أن لديه ما يشغله، والعكس صحيح.

الأبناء ليسوا قوالب جاهزة تُشكّل وفق مزاج الأهل، بل أرواح في طور التكوين، تحتاج إلى احتضان الأخطاء أكثر من تصيّدها، هناك فرق بين التغافل المربّي الذي يتجاهل هفوة عابرة كيلا تتضخّم، والإهمال الذي يترك السلوكيات السيئة تتفاقم حتى تصبح عادة، الطفل الذي يكذب لأول مرة ليس بحاجة إلى صرخة تُرعبه، بقدر حاجته إلى نظرة تفهّم تشير إلى أنه لم يُحسن التصرف، لكنه لا يزال موضع ثقة، فبحسب نظرية «التعزيز الإيجابي لباندورا»، فإن الأطفال يتعلمون من ردود فعل والديهم أكثر مما يتعلمون من النصائح المباشرة، وحين يرى الطفل أن والديه لا يُضخّمان زلاته، بل يوجّهانه برفق، يتشكّل لديه وعيٌ أخلاقيٌّ متين.

التغافل ليس تهربًا من المسؤولية، ولا يعني السكوت عن الخطأ الذي يتكرّر ليُصبح سلوكًا، بل هو اختيار واعٍ للحروب التي تستحق أن تخاض، فهناك مواقف لا تحتمل التجاهل، مثل الإهمال المتكرر، والتقصير في الحقوق الأساسية، والسلوكيات المؤذية، قال عمر بن الخطاب: «لست بالخب، ولا الخب يخدعني»؛ أي أن الحكمة تكمن في معرفة متى يكون التغافل فضيلة، ومتى يكون غفلة.

في النهاية، الأسرة ليست مؤسسة إدارية قائمة على المراقبة والتقييم، بل حديقة تحتاج إلى الريّ بماء التسامح، والتغافل هو ذلك الماء العذب الذي يحفظ نضارتها، فمن يُتقن التغاضي بحكمة، لا يُثقل كاهله بتوافه الأمور، ولا يحمّل أحبّته ما لا طاقة لهم به، بل يزرع في بيته روح الصفح والمودّة، فتثمر حياة هانئة، ينعم بها الجميع، هكذا يكون التغافل فنًا راقيًا، لا استسلامًا، ومسؤولية واعية، لا تخليًا، وسرًّا من أسرار السعادة التي يعرفها أصحاب القلوب الكبيرة!


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة