القدس.. محطة الانفجار

تتعمد الإدارة
الأمريكية على مدار عقود من الزمن تجاهل القدس في أي حل سياسي، وتعتبر أن التعامل
مع القضية الفلسطينية أمني وفقط ويخدم مصلحة الكيان، وهذه النظرية بنيت عليها
اتفاقيات سلام وتطبيع ومؤتمرات للابتعاد عن أصل القصة.
القدس تمحورت
حولها آخر 3 معارك في غزة؛ حيث كانت عام 2014م بعد إحراق المستوطنين للطفل محمد
أبو خضير في المدينة المقدسة، وعام 2021م معركة «سيف القدس» التي انطلقت من غزة
دفاعاً عن المرابطين والمصلين في المسجد الأقصى في شهر رمضان، ومعركة «طوفان
الأقصى» التي انطلقت في أكتوبر 2023م، وما سبق ذلك من مواجهات وحروب مع غزة التي
كانت قيد التحضير والاستعداد، أو بالانتفاضات في الضفة سواء انتفاضة الأقصى عام
2000م، أو «هبة الأقصى» عام 2015م، أو «انتفاضة البوابات» عام 2017م، وصولاً
للمشاركة الواسعة في «سيف القدس» من أهالي الداخل المحتل والقدس.
هذه المواجهة
المفتوحة باتت قنبلة موقوتة تنفجر في كل مرحلة دون علاج من الساحة الدولية ولا من
جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وفي كل مرة ينفذ «الإسرائيلي»
مخططات أوسع وأخطر بحق المدينة المقدسة التي تظهر فقط على شاشات الإعلام العربي في
رمضان وتختفي طيلة السنة.
تراكم
وضغط
تستمر المواجهة
في الوقت الذي تتسارع فيه عجلة التطبيع وترويض الحق الفلسطيني نحو التلاشي، بينما
في المواجهة الأخيرة أعيد من جديد التفكير وجدياً وعلى طاولة المجتمع الدولي
بضرورة وضع حل سياسي للقضية الفلسطينية ومنع التراكم في المواجهة من الاستمرار،
غير أن هذا لم يكبح جماح المستوطنين؛ بل وصل الحال للتقسيم الزماني وبدء التمهيد
للمكاني؛ ما يعني أن نظرية الانفجار القريب في القدس تزداد احتماليتها في ظل
انعدام أفق رادع للاحتلال أو على الأقل مانع لتنفيذ المخططات.
ورغم عقد «إسرائيل»
وأمريكا مع عدد من الدول العربية عشرات المؤتمرات التي تستثني القدس من الحلول،
وتركز على أن المساعدات الإنسانية هي الحل الوحيد للفلسطينيين؛ فإن «طوفان الأقصى»
جاءت مرتكزاً على ما تراكم من غضب لتجاهل العالم للملف، وأيضاً على تعزيز لنظرية
المواجهة بعد تصاعد اعتداء المستوطنين.
وهذا يقودنا إلى
محطات مهمة لاحقاً لم تعد كسابقها في الصراع إذا لم تكن هناك بادرة حسن نية حقيقية
من المجتمع الدولي مبنية على القرارات التي أقرتها الأمم المتحدة بشأن الدولة
الفلسطينية والقدس الشرقية عاصمتها؛ لأن سلوك الجمهور «الإسرائيلي» في العقد
الأخير اتجه نحو انتخاب شخصيات متطرفة كانت أصلاً على الهامش في الخريطة السياسية «الإسرائيلية»،
وكانت ديكوراً فقط في الحالة العامة لتتحول مؤخراً إلى رمز فاعل في صناعة القرار
ساهمت في كسر خطوط حمراء أوسع، واستغلت التجاهل الأمريكي للحل السياسي للقضية
الفلسطينية ونشرت الاستيطان بصورة كبيرة ومتسارعة، والآن تسعى لتسريع خطة الضم في
الضفة الغربية وكذلك في القدس تمثلت في تعزيز الطرد للفلسطينيين وسحب الإقامة
والتضييق على المصلين، ومنع أهالي الضفة وغزة من الوصول للقدس في إطار تجريدها من
فلسطينيتها، تزامناً مع هدم عشرات المنازل وتهويد واسع، وهذا ما كان ليتسارع لولا
وجود هذه الفئة الآن في الحكم.
وفي إطار تراكم
ممارسات «الإسرائيلي» المدعومة أمريكياً؛ بات التجاوز الواضح لخريطة الدول أمراً
رسمياً، وهذا ظهر في مواقع رسمية تابعة لـ«الخارجية الإسرائيلية» أن تضع خريطة
الكيان على أجزاء من الأردن وسورية ولبنان! وهذا في إطار تنفيذي سيُبعد الحديث
أكثر عن القدس والدولة الفلسطينية والحقوق، بل ويعطي التوتر في المنطقة والضغط
مساراً جديداً ستبنى عليه قرارات غير مسبوقة لاحقاً من قبل السلطات «الإسرائيلية».
وما حدث في
المسجد الإبراهيمي في الخليل جنوب الضفة الغربية مؤخراً من إعلان الاحتلال
مسؤوليته الكاملة عن الحرم ومرافقه، ورفضه تسليم وزارة الأوقاف الفلسطينية مفاتيح
القسم الذي استولى عليه وقام بتقسيم المساحات من خلاله، حيث إنه في رمضان والمناسبات
العامة يفتح كل المسجد للفلسطينيين وفي مناسبات اليهود كذلك يفتح لهم كله، غير أن
التصعيد الجديد يشي بنوايا ممكن أن تتكرر في المسجد الأقصى في القدس على وقع
تهديدات وممارسات عملية من المستوطنين تمهد بضغط وتراكم دفع للفلسطينيين نحو
الزاوية، وتفتح الباب على الانفجار الذي سيكون مبنياً على العلاقة الدينية من جهة،
وكذلك الوطنية من جهة أخرى، حيث الاعتداء على الوطن والأرض باعتبارها قوة احتلال.
ومن ناحية
حياتية، حيث مصادرة الأراضي وسحب الإقامة وهدم المنازل وقطع الأفق الاقتصادي؛ كلها
عوامل تتلاقى في موجة خطيرة باتت «إسرائيل» تمارسها رسمياً، ومن خلال مؤسسات غير
مباشرة بالإضافة إلى منهجية المستوطنين.
نقطة
ارتكاز
اليوم تعيش
المنطقة العربية حالة توتر أمني وسياسي واسع على وقع التجاهل الذي كان من البداية
للقضية الفلسطينية والقدس والمسجد الأقصى، ظناً من الأنظمة العربية أن معادلة
النظام القائم وعدم تغيير الواقع في المسجد الأقصى مستمرة ولا تغيير عليها، بيد أن
الجديد هو انقلاب المعايير وتغيير أولويات في عقلية «الإسرائيليين» التي بات
المستوطنون المتطرفون يوجهونها سواء من داخل الحكومة أو بإعلام هم يسيطرون عليه.
ولذلك، باتت
القدس نقطة ارتكاز مهمة لديهم؛ ما دفع بالفلسطينيين لدق ناقوس الخطر المحدق القادم
في حال استمر تجاهل المجتمع الدولي للقضية أو بقيت الأنظمة العربية مقتنعة أن
النظام القائم لا تهديد بتغييره في «الأقصى»، لتكون القدس محطة المواجهة ونقطة
ارتكاز خطيرة.
تغيرت جذرياً
العقلية في «إسرائيل» من محاولة البقاء إلى التعايش المؤقت، مروراً بنفي الآخر
والإبادة والطرد، وصولاً للتوسع وتغيير جغرافي ضمن الشرق الأوسط الجديد؛ ما يجعل
الخطر أكثر جدية على القدس بعد أن نقل إليها ترمب سفارة بلاده، ومع تعاقب القرارات
«الإسرائيلية» لتوحيدها ولتطبيق مشروع «E1» القاضي بضم
مستوطنة «معاليه أدوميم» لتقسيم الضفة إلى عدة أقسام.
ما يعني أن
تغيرات جذرية تمت للاحتلال لصالح التوسع والتطرف، في الوقت الذي بقيت فيه المواقف
العربية مكانها وفي كثير من الأحيان تراجعت ما يجعل الأمور أكثر تعقيداً، وشهية
المتطرفين لهدم المسجد الأقصى تتصاعد وتطبيق الخطط يتنامى، لذلك بات لزاماً أن
يتغير جذرياً الموقف العربي، وأن تدرك الدول العربية أن الواقع تغير، وأن البيانات
لم تعد حتى تناسب خيال الماضي.