بعد «نكبة ترمب».. غزة بين خيار الماضي الصهيوني والحاضر الأمريكي

لم يتوقع أي متابع للحرب الصهيونية على غزة أن تنتهي بـصدمة وحالة فشل مطلق داخل «تل أبيب» -إلا القليلين- فلم تحقق الحركة الصهيونية أياً من أهدافها العسكرية أو السياسية في القطاع، سواء بتحطيم حركة «حماس» والقضاء عليها، أو باستعادة الأسرى والمحتجزين الصهاينة بالعمل العسكري، أو بالتأكد من عدم تحقيق الفلسطينيين لأي تهديد مستقبلي على الكيان..
صدمة طوفان العودة!
فالصدمة الصهيونية تجاه طوفان العودة للأهالي الفلسطينيين إلى شمال غزة، طيلة الأيام الماضية، جعلت بعض الكُتَّاب والمحللين الصهاينة يطفئون التلفزيون أمام مشاهد العودة التي تم تشبيهها بـ«الطوفان»، ويتباكون على مشاهد عناصر «حماس» وهم يتجولون بالأسلحة والسيارات الصهيونية التي جلبوها من مستوطنات غلاف غزة؛ بل وزاد الأمر مرارة حينما فوجئت «تل أبيب» بظهور القائد العسكري بالحركة هيثم الحواجري على منصة تسليم الأسير «الإسرائيلي» كيث شمونسل سيغال، الذي أعلنت اغتياله من قبل؛ في حالة من التأكيد بأن الكيان لا يزال يتبع سياسة الكذب المقنَّع.
الحواجري.. وسياسة الكذب المقنَّع
والغريب أن سياسة الكذب المقنَّع قد اتبعها المتحدث باسم الجيش الصهيوني في سرد قصص وحكايات عن بطولات جنوده وقواته، ولكنه لم يعترف علنًا بفشله في تقدير كم نجحت «حماس» وحركات المقاومة في تلقين الصهاينة دروسًا لن تنساها بلاده في الحرب على القطاع؛ حيث اكتفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية بأن إعلان مقتل هيثم الحواجري، قائد كتيبة الشاطئ في «كتاب القسام»، كان مبنيًا على معلومات استخباراتية تبين الآن أنها خاطئة.
في وقت لم تكتف الصحيفة في تقريرها المميز بذلك، بل شددت على إمكانية أن تشهد بلادها في المستقبل ظهور المزيد من قادة «حماس» فجأة، من الذين ظنت «تل أبيب» أنها قضت عليهم خلال الحرب على غزة، ناهيك عن اعترافها، صراحة، بأنه لا يزال لدى الحركة قادة عسكريون كبار في مختلف أنحاء القطاع يؤدون دورًا مركزيًّا ورئيسًا في إعادة بناء المنظومة العسكرية لـ«حماس» التي لا تزال تسيطر على غزة، حتى الآن.
انتشار مفهوم الفشل الكامل
الفشل الكامل جملة قصيرة وناجزة لما جرى في قطاع غزة من قبل الجيش الصهيوني، خاصة وأنها جاءت على ألسنة وسائل الإعلام العبرية كافة، ليس قناة واحدة أو صحيفة أو موقعاً إلكترونياً، وإنما جملة استشرت في أقلمة وألسنة الكثيرين داخل الكيان، تعليقاً على ما آلت إليه الحرب من نتائج سلبية على «إسرائيل»، خاصة أن مئات الآلاف من سكان غزة قد عادوا -في مشهد رهيب تقشعر له الأبدان، وكأنه طوفان لعودة الأهالي الفلسطينيين جميعهم إلى كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة- إلى شمال القطاع، في وقت لم يفلح الكيان في عودة مستوطنيه إلى شمال فلسطين المحتلة، حتى الآن، ليصفه «الإسرائيليون» بأنه الفشل الكامل، فهو مشهد لم يستوعبه الصهاينة؛ وذلك ردًّا على التصريحات الدائمة لبنيامين نتنياهو، التي أدار من خلالها حربه الشرسة على غزة ومحاولة تحقيق مزاعم النصر الكامل.
مستقبل نتنياهو السياسي
لم يفلح نتنياهو في تحقيق أهدافه المنشودة من الحرب في غزة، فذهب إلى واشنطن في محاولة بائسة لاكتساب أي نصر زائف من الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، أو وعود من أجل حفظ ماء وجهه أمام الناخبين «الإسرائيليين»، خاصة أنه طلب من المحكمة العليا في بلاده تأجيل جلسات استماعه في القضايا المُتهم فيها منذ سنوات طويلة؛ فضلاً عن يقينه التام بأن انتهاء الحرب في غزة يعني الإسراع في إصدار نتائج التحقيقات في أسباب عملية «طوفان الأقصى» التي قامت بها «حماس»، في 7 أكتوبر 2023م.
وهي النتائج التي يمكن أن تورِّط رئيس الوزراء الصهيوني وتدخله السجن للأبد، خاصة أن كل التقارير العبرية تؤكد أنه كان على علم مسبق بما جرى من تدريبات لعناصر «حماس» قبيل عملية «طوفان الأقصى»، ووردته إفادات بهذا الخصوص، وقد تجاهلها.
الائتلاف الحاكم وحل الدولتين
والآن يبحث نتنياهو مع ترمب الحصول على أي مكاسب تعيده إلى الواجهة مرة أخرى، فهو لم يعتد على الوقوف خلف الكاميرا طوال فترات ولاياته منذ اعتلائه سدة الحكم في «تل أبيب» في العام 1996م، وبعدها على فترات زمنية، فهو شخص يجيد اللعب بالألفاظ ويتمتع بدهاء سياسي يمكِّنه من إعادة الدفة لصالحه؛ لذا يحاول البحث عنه في الإدارة الأمريكية الجديدة، التي توصف باليمينية المتشددة والداعمة للمزاعم الصهيونية.
لم تكتف «هيئة البث العبرية» بالتأكيد على أن نتنياهو ماضٍ في مسار التطبيع، بل أشارت إلى أن خيار حل الدولتين ما يزال يقف حجر عثرة أمام تحقيق التطبيع بين دول عربية وإسلامية من جانب، والكيان الصهيوني من جانب آخر، حيث ترغب تلك الدول في تحقيق حلم إقامة الدولة الفلسطينية قبيل تحقيق أحلام ترمب ومن قبله نتنياهو بالتطبيع مع دول عربية كبرى.
اعتراض معروف ومسبق
غير أنها أكدت أن الائتلاف الحاكم مع نتنياهو لن يوافق على مبدأ حل الدولتين؛ ما يجعله حائطًا منيعًا أمام تحقيق هذا الحلم الصهيوني، فكل من بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، أو أوريت ستروك، وزيرة الاستيطان، أو غيرهما من بين أعضاء حكومة «تل أبيب» الحالية، لن تقبل بإقامة دولة فلسطينية، وهو ما يضع نتنياهو في مأزق سياسي داخلي؛ غير أن تمسك الدول العربية والإسلامية بوجوب هذا المبدأ سيجعل نتنياهو يعيد التوازنات السياسية الداخلية في بلاده بهدف القبول بالشروط العربية للتقدم في مسار التطبيع.
فكان طبيعيًّا أن يعترض وزير الخارجية السابق وزير الطاقة الحالي إيلي كوهين على اشتراط دول عربية للتطبيع مع بلاده، إقامة دولة فلسطينية، والمضي قدمًا في حل الدولتين، معلنًا اعتراضه الصريح لذلك، بقوله: إن التطبيع مع دول عربية مهم، ولكنه ليس أهم من دولة «إسرائيل»، زاعمًا أن إقامة دولة فلسطينية سيقضي على الأمن القومي الصهيوني؛ وهي المعضلة السياسية التي يواجهها الائتلاف الحاكم في «تل أبيب»، في اللحظة الراهنة.
قطعة الأرض الأمريكية!
غير أن ما سبق كله، قد نسفه الرئيس ترمب حينما يرى أن قطاع غزة سيكون «ريفييرا الشرق الأوسط»، معتبرًا إياه قطعة أرض أمريكية أو ملكية أمريكية قد عادت إليه بمجرد همس نتنياهو في أذنه بأنها جنة الله في الأرض، وعلى الصهيونية الأمريكية احتلالها، وطرد أهاليها منها وتوزيعهم على الأردن ومصر.
ولم تكد تمر ساعات حتى اعتراف داني أيالون، سفير الكيان الصهيوني السابق لدى الولايات المتحدة، بأن ترمب يغير آراءه بناء على آخر شخص يلتقي به، وآمل ألا يجعل الوضع في الشرق الأوسط أكثر اشتعالاً، مؤمنًا بأن تصريحات الرئيس الأمريكي ستجلب الدمار لبلاده ولمنطقة الشرق الأوسط.
استباق الأحداث
ويبدو أن صحيفة «معاريف» العبرية قد استبقت الأحداث وتوقعت تصريحات ترمب، حينما نفت ما أسمته الانتصار الكامل، حينما رأت مشهد عودة النازحين الفلسطينيين إلى شمال غزة بقولها على صدر صفحتها على «إكس»: كيف يحطم مشهد عودة الفلسطينيين إلى شمال غزة أوهام «إسرائيل» في نفي الشعب الفلسطيني؟! لتؤكد معها «إذاعة الجيش الإسرائيلي» أن «حماس» حصلت على ما تريد من «طوفان الأقصى»، أهمها العودة للسيطرة الكاملة على شمال غزة، مضيفة في تعليقها على لقطات تسليم الأسرى «الإسرائيليين»، أنه من الصعب جدًّا على «إسرائيل» استكمال الحرب شمالي القطاع.
تلك الصعوبة التي لم يعلمها ترمب أو تدركها الإدارة الأمريكية، حتى الآن، فرغم آلاف الأطنان من المتفجرات الأمريكية التي استخدمتها الآلة العسكرية الصهيونية في قطاع غزة طيلة الـ15 شهرًا الماضية، فإنها لم تنجح في طرد الفلسطينيين أو تهجيرهم من أراضيهم، بل زادتهم قوة وثباتًا.
فيما باتت غزة ما بين خيار الماضي «الإسرائيلي» الذي كان يحلم بالسيطرة على القطاع وبناء المستوطنات اليهودية على أراضيه، والحاضر الأمريكي الذي يرى في تلك البقعة الفلسطينية الطاهرة جزءًا من الإمبراطورية الأمريكية الجديدة؛ وكلاهما سيقف عاجزًا أمام اعتزاز المقاومة الفلسطينية بنفسها ولنفسها في غزة، رافعة راية الصمود، فكم مرت على هذه الأرض الطاهرة إمبراطوريات ذهبت دون رجعة! وما الصهيونية الأمريكية إلا واحدة من المحتلين الذين ستدحرهم المقاومة بعقول وقلوب مكلومة، ولكن بأيادٍ سترهب عدوها وتدحره، فهي الأرض التي لا تعرف المستحيل.