24 فبراير 2025

|

5 معايير نبوية لاختيار السفراء إلى الملوك والأمراء

لم يكن سفراء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء مجرد حاملي رسائل، بل كانوا أصحاب رسائل، وفرق كبير بين من يحمل رسالة لا يدري عنها أي شيء، سوى أنه مكلَّف بتسليمها؛ ومَن تعبر هذه الرسالة عن كيانه كله، فهي تحمل فكرته، وتعبر عن ديانته، لذا فإنه يستطيع أن يفسر ما أشكل منها، أو يبين ما غمض منها، أو يبسط ما اختصر منها.

ومن أهم المعايير التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليها في اختيار الرسل المبعوثين إلى الملوك والأمراء، ما يأتي:

1- حسن المظهر:

إن العين تقع على المظهر قبل أن تطلع على المخبر، لذا كان المظهر الجميل مهماً في حامل الرسالة، وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث روى الطبراني والبزار بسند صححه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا بَعَثْتُمْ رَسُولًا ‌فابْعَثُوهُ ‌حَسَنَ ‌الْوَجْهِ، حَسَنَ الِاسْمِ»؛ أي: فتَخيَّروا رجُلًا له جَمالٌ في الوجْهِ والاسمِ؛ وذلك طَلبًا للفأْلِ الحَسنِ؛ لأنَّ الرَّسولَ إنَّما يأْتي على قومٍ لا يَعرِفُهم ولا يَعرِفونه، ولربَّما كانتْ صُورةُ الإنسانِ واسْمُه عامِلَ خيرٍ في قَضاءِ مُهِمَّتِه؛ لأنَّ أوَّلَ ما يقَعُ مِن الرَّسولِ عندَ مَن أُرسِلَ إليهم صُورتُه واسْمُه.

قال القاضي أبو يعلى بن الفراء: «وَيسْتَحب فِي الرَّسُول تَمام الْقد وعبالة الْجِسْم (ضخامة الجسم) حَتَّى لَا يكون قميئاً وَلَا ضئيلاً، وَإِن كَانَ الْمَرْء بأصغريه ومخبوءاً تَحت لِسَانه؛ وَلَكِن الصُّور تسبق اللِّسَان، والجثمان يستر الْجنان، وَلذَلِك قَالَ عمر بن الْخطاب: يُؤذَن لكم فَيقدم أحسنكم اسْما فَإِذا دَخَلْتُم قدمنَا أحسنكم وَجهاً، فَإِذا نطقتم ميزتكم أَلْسِنَتكُم، وَكَانَت أعين الْمُلُوك تسبق إِلَى ذَوي الرواء من الرُّسُل، وَإِنَّمَا توجب ذَلِك فِي رسلها، لِئَلَّا ينقص اخْتِيَارهَا حظاً من حظوظ الْكَمَال(1).

2- حسن الخلق:

إن تسلح السفير بحسن الخلق يدفعه إلى مراعاة حق مخاطبيه وحسن التحدث معهم، بل يندفع بحسن خلقه إلى البحث عن مزاياهم والاستعانة بذكرها والاستئناس بها في دعوتهم إلى الحق، ومن الأمثلة التي تدل على ذلك ما فعله الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ مع الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى، حيث قَالَ لَهُ: يَا مُنْذِرُ، إنّك ‌عَظِيمُ ‌الْعَقْلِ ‌فِي ‌الدّنْيَا، فَلَا تَصْغُرَنّ عَنْ الْآخِرَةِ.، وَلَسْتَ بِعَدِيمِ عَقْلٍ وَلَا رَأْيٍ، فَانْظُرْ هَلْ يَنْبَغِي لِمَنْ لَا يَكْذِبُ أَنْ لَا تُصَدّقَهُ، وَلِمَنْ لَا يَخُونُ أَنْ لَا تَأْمَنَهُ، وَلِمَنْ لَا يُخْلِفُ أَنْ لَا تَثِقَ بِهِ فَإِنْ كَانَ هَذَا هَكَذَا، فَهُوَ هَذَا النّبِيّ الْأُمّيّ الّذِي وَاَللهِ لَا يَسْتَطِيعُ ذُو عَقْلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْتَ مَا أَمَرَ بِهِ نَهَى عَنْهُ أَوْ مَا نَهَى عَنْهُ أَمَرَ بِهِ أَوْ لَيْتَ زَادَ فِي عَفْوِهِ أَوْ نَقَصَ مِنْه(2).

3- الفقه في الدين والعلم بأحوال من أُرسِل إليهم:

إذا كان السفير يحمل رسالة محددة؛ فإن دوره ليس مقتصراً على تسليم هذه الرسالة، بل إنه مسؤول عنها مسؤولية كاملة، من حيث إيضاحها، والإجابة عن الأسئلة المتعلقة بها، وبيان المقاصد الدعوية التي أرسلت من أجلها، وكذلك العلم بأحوال الناس الذين يذهب إليهم، حتى يحسن التعامل معهم، ويستشهد بالخير مما لديهم، ولا يتحدث فيما يؤذيهم أو يثيرهم عليه. 

ويدل على ذلك ما فعله سيدنا حاطب بن أبي بلتعة، سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم وحامل كتابه إلى المقوقس في مصر، حيث أوضح له خصائص دعوة الإسلام، وأفهمه أن هذا الدين الذي يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو نفسه الذي كان يدعو به عيسى عليه السلام، وحذّره من الإعراض عن الإسلام، حيث قال له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبِرْ بغيرك ولا يعتبر غيرُك بك!

فقال المقوقس: إن لنا دينًا لن ندعه إلا لما هو خير منه، فقال حاطب: ندعوك إلى دين الله وهو الإسلام الكافي به اللهُ فَقْدَ ما سواه، ولَعَمْري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكلُّ نبيٍّ أدرك قومًا فهُم من أُمَّتِه، فالحقُّ عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنَّا نأمرك به(3).

4- الحكمة والذكاء:

من الصفات اللازمة للسفير أن يكون ذكياً فطناً، يحسن الأسئلة والأجوبة، ويستطيع أن يتخلص من المواقف المحرجة دون تلعثم أو تردد، ومن الأمثلة التي تدل على ذلك ما فعله سيدنا حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، حيث قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُقَوْقِسَ مَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ قَالَ: فَحَيَّيْتُهُ بِكِتَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَنِي فِي مَنْزِلِهِ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ وَقَدْ جَمَعَ بَطَارِقَتَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَأُكَلِّمُكَ بِكَلَامٍ وَأُحِبُّ أَنْ تَفْهَمَهُ مِنِّي قَالَ: قُلْتُ: هَلُمَّ.

قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَاحِبِكَ أَلَيْسَ هُوَ نَبِيٌّ، قُلْتُ: بَلَى هُوَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: فَمَا لَهُ حَيْثُ كَانَ هَكَذَا لَمْ يَدْعُ عَلَى قَوْمِهِ حَيْثُ أَخْرَجُوهُ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى غَيْرِهَا، قَالَ: فقلت عيسى ابن مَرْيَمَ أَلَيْسَ تَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، فَمَا لَهُ حَيْثُ أَخَذَهُ قَوْمُهُ فَأَرَادُوا أَنْ يَغْلِبُوهُ، أَلَّا يَكُونَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُهْلِكَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: أَنْتَ ‌حَكِيمٌ ‌جَاءَ ‌مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ(4).

ومن الأمثلة التي تدل على الحكمة والذكاء وحسن العرض ما فعله دحية الكلبي مع قيصر الروم، حيث استدرجه بسؤال، ثم بنى على إجابته الهدف الذي يقصده، والغاية التي يريد أن يحققها، فقد قال له: هَلْ تَعْلَمُ ‌أَكَانَ ‌الْمَسِيحُ ‌يُصَلّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنّي أَدْعُوك إلَى مَنْ كَانَ الْمَسِيحُ يُصَلّي لَهُ، وَأَدْعُوك إلَى مَنْ دَبّرَ خَلْقَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَسِيحُ فِي بَطْنِ أُمّهِ، وَأَدْعُوك إلَى هَذَا النّبِيّ الْأُمّيّ الّذِي بَشّرَ بِهِ مُوسَى، وَبَشّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ بَعْدَهُ، وَعِنْدَك مِنْ ذَلِكَ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ تَكْفِي مِنْ الْعِيَانِ وَتَشْفِي مِنْ الْخَبَرِ، فَإِنْ أَجَبْت كَانَتْ لَك الدّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَإِلّا ذَهَبَتْ عَنْك الْآخِرَةُ وَشُورِكْت فِي الدّنْيَا، وَاعْلَمْ أَنّ لَك رَبّا يَقْصِمُ الْجَبَابِرَةَ وَيُغَيّرُ النّعَمَ. 

فَأَخَذَ قَيْصَرُ الْكِتَابَ فَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَرَأْسِهِ وَقَبّلَهُ ثُمّ قَالَ: أَمَا وَاَللهِ مَا تَرَكْت كِتَابًا إلّا وَقَرَأْته، وَلَا عَالِمًا إلّا سَأَلْته، فَمَا رَأَيْت إلّا خَيْرًا(5).

5- الشجاعة والثبات:

قد يواجه السفير مواقف صعبة، وقد يتعرض للإهانة أو التهديد؛ لذا يجب أن يكون شجاعًا وثابتًا في مواقفه، وهذه الشجاعة تنبعث من ثقته بربه، واعتزازه بما لديه من الإيمان الصادق بالدين الحق، فإذا حدث هذا؛ فإن السفير لا يخاف من مخالفة الناس له، أو يقلق من مناقشتهم إياه، أو تهديهم له، كما لا يضعف أمام أبهة الملك، وقوة السلطان. 

وذلك ما كان من الصحابي الجليل عبدالله بن حذافة السهمي، الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس، فجهز راحلته وودع أهله ثم مضى إلى غايته، حتى وصل إليه، واستأذن عليه، عِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ كِسْرَى بِإِيوَانِهِ فَزُيِّنَ، وَدَعَا عُظَمَاءِ فَارِسٍ لِحُضُورِ مَجْلِسِهِ، فَحَضَرُوا، ثُمَّ أَذِنَ لِعَبْدِاللهِ بْنِ حُذَافَةَ بِالدُّخُولِ، فَدَخَلَ عَبْدُاللهِ بْن حُذَافَة عَلَى سَيِّدِ فَارِسٍ، مُشْتَمِلاً شَمْلَتُهُ، مُرْتَدِيًا عبَاءَتِهِ الصَّفِيقَةِ، عَلَيْهِ بَسَاطَةُ الأَعْرَابِ، لَكْنَّهُ عَالِي الْهِمَّةِ، مَشْدُودَ الْقَامَةِ، تَأَجَجُ بَيْنَ جَوَانِحِهِ عِزَّةُ الإِسْلامِ.

فَلَمَّا رَآهُ كِسْرَى مُقْبِلاً أَشَارَ إِلَى أَحَدِ رِجَالِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْكِتَابَ، فَقَالَ: لا، إِنَّمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَدْفَعُهٌ لَكَ يَدًا بِيَدٍ لا أُخَالِفُ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ، فَقَالَ كَسْرَى لِرِجَالِهِ: ‌اتْرُكُوهُ ‌يَدْنُو ‌مِنِّي، فَدَنَا مِنْ كِسْرَى، فَنَاوَلَهُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ. 

ثُمَّ دَعَا كِسْرَى كَاتِبًا عَرَبِيًّا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَفُضَّ الْكِتَابَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ، فَإَذَا فِيهِ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسٍ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتْبَعَ الْهُدَى». 

وَلَمَّا سَمِعَ كِسْرَى هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ الرِّسَالَةِ اشْتَعَلَ غَضَبَهُ فِي صَدْرِهِ، فَاحْمَرَ وَجْهَهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَجَذَبَ الرِّسَالَةَ مِنْ يَدِ كَاتِبِهِ، وَجَعَلَ يُمَزِّقُهَا، دُونَ أَنْ يَعْلَمَ مَا فِيهَا، وَيَقُولُ: أَيَكْتُبْ لِي بِهَذَا وَهُوَ عَبْدِي، ثُمَّ أَمَرَ بِعَبْدِاللهِ بْنِ حُذَافَةَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأُخْرِجَ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ لا يَدْرِي مَاذَا يَكُونُ بَعْدُ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ مَا لَبِثَ أَنْ قَالَ: وَاللهِ مَا أُبَالِي عَلَى أَيُّ حَالٍ أَكُونَ بَعْدُ أَنْ أَدَّيْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَكِبَ رَاحِلَتُهُ وَانْطَلَقَ، وَلَمَّا سَكَتَ غَضَبَ كِسْرَى، أَمَرَ أَنْ يَرُدُّوهُ إِلَيْهِ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأَرْسَلُوا فِي أَثَرِهِ، وَطَلَبَوُهُ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَجِدُوُه، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ كِسْرَى، وَتَمْزِيقِهِ الْكِتَابَ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلامُ عَلَى أَنْ قَالَ: «مَزَّقَ الله مُلْكَهُ»(6).

 

 

 

 

 

________________________

(1) رسل الملوك: ابن الفراء، ص 47.

(2) الروض الأنف: السهيلي (7/ 515).

(3) زاد المعاد: ابن القيم، (3/ 874 - 875).

(4) دلائل النبوة: البيهقي (4/ 396).

(5) الروض الأنف: السهيلي (7/ 513).

(6) موارد الظمآن لدروس الزمان: عبدالعزيز السلمان (2/ 57).


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة