يتميز شهر رمضان في السودان بأجواء استثنائية تضفي شكلًا جديدًا على مختلف جوانب الحياة، من دينية وروحية واجتماعية وثقافية ورياضية وغيرها، حيث يحرص أهل السودان على إبراز قيم الإخاء والتعايش التي يتميز بها الشعب السوداني في مختلف أقاليمه وقبائله المتعددة.
وتبرز في هذا الشهر الكريم أشكال مختلفة من التواصل الإنساني، والتكافل الاجتماعي، وإعلاء قيم التسامح، التي عادة ما تكون لصالح صلة الرحم، وإنهاء الخصومات عبر رجال المصالحات الذين يطلق عليهم «الأجاويد»، وهم غالبًا ما ينتمون إلى دعاة في الحركات الإسلامية، ومشايخ من الطرق الصوفية.
ولا يقتصر التواصل الإنساني على أفراد المجتمع، ولكن تتعاون الدولة بسلطاتها المختلفة مع الشعب في شكل احتفالي، حيث يجتمعون تنظيمًا وإفطارًا جماعيًا، ويفترشون الأرض لتناول وجبات إفطار رمضان لا فرق بين عامل نظافة ووزير بالحكومة الاتحادية.
وهذه الصورة المصغرة كانت تعم بلاد السودان، وتستقر فيه منذ مئات السنين، ولكن رمضان هذا العام يأتي بمتغير جديد وهو احتلال مجموعات بشرية مختلفة تحت قيادة الدعم السريع لبيوت ومساكن وساحات وطرق السودانيين، وإشاعة الخوف والرعب من عربات الدفع الرباعي المحملة بالأسلحة تخترق الشوارع والأزقة بالعاصمة الخرطوم، وفي أكبر ولايات السودان، ولاية الجزيرة، وفي غرب وجنوب كردفان، وفي ولايات دارفور الخمس، إنها الحرب الأهلية بين الجيش السوداني والدعم السريع، التي جاءت تحل الإنسان السوداني محل آخر يحمل عادات وتقاليد أخرى ربما ستكون مختلفة هذا الشهر عن كل احتفالات الشعب السوداني برمضانه على مدار تاريخه السابق.
الزفة الرمضانية
وبعيدًا عن أجواء الحرب، عادة ما تحتفل الأسر السودانية بوصول شهر رمضان بأساليب متعددة، أحد هذه الطقوس الاجتماعية الجميلة صلة الرحم، حيث يتبادل أفراد العائلة الزيارات والهدايا والتهاني في هذا الشهر الفضيل، وتعتبر هذه اللحظات فرصة لتقوية الروابط العائلية وتعزيز الألفة بين أفراد المجتمع.
بجانب ذلك، يشهد السودان استقبال شهر رمضان بإقامة مواكب احتفالية مميزة تعرف باسم «الزفة»، تشارك في هذه المواكب الشعبية الفرق الموسيقية ورجال الشرطة والمواطنون، حيث يتجمعون للاحتفال بقدوم شهر الصيام بحماس وفرح، ويتخلل هذه الاحتفالات دق الطبول والتصفيق والأنشطة الترفيهية التي تعكس الفرحة والروح الرمضانية الخاصة بالسودانيين.
وتستقبل نساء السودان رمضان بالتجديد وإضافة مكونات جديدة لمطبخهن ليفي بمتطلبات الشهر الكريم، كما يستقبله الرجال بإعداد مواقع الإفطارات الجماعية التي غالباً ما تكون على الطرقات العامة، إضافة إلى تجديد فرش المساجد وزوايا العبادة.
مظاهر دينية
وفي رمضان، يعطي الشعب السوداني الأولوية لإعلاء القيم الدينية من خلال إصلاح وتنظيف وتهيئة المساجد وتزيينها لاستقبال الشهر الكريم، وإقامة حلقات الذكر بعد صلاة التراويح حيث يردد المجتمعون خلف المنشدين لفظ الجلالة «الله»، ويكررونه مع الدق على الطبول، كما اعتاد السودانيون على قراءة القرآن في تلاوة جماعية والاستماع إلى الدروس الدينية لتعزيز التمسك بالقيم الإسلامية.
ويستمر السودانيون في الاحتفال بالشهر الكريم بالتزاور والتنقل بين العائلات والقبائل المختلفة، ويتضمن ذلك توزيع المواد الغذائية الأساسية على الفقراء والمحتاجين، ويتم ذلك بمشاركة الجميع بمن فيهم العاملون خارج البلاد.
وفي مقار الطرق الصوفية التي تعج بها المدن السودانية، يقيم مشايخها حفلات الذكر التي يطلق عليها «الحضرة الصوفية»، حيث ينشدون في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدقون الدفوف، ويتراصون في شكل حلقات مرتدين أزياءهم المعروفة بلونها الأخضر، وهو المشهد الذي يشارك فيه ضيوف أجانب من الدبلوماسيين المعتمدين بالخرطوم كل عام في هذا الشهر الكريم.
إلى أن تأتي العشر الأواخر، حيث يركن أبناء السودان إلى العبادة فتمتلئ الطرقات بالمارة المتجهين نحو المساجد لأداء صلاة التهجد أملًا في إدراك رضا الله في ليلة القدر.
مائدة رمضانية
ويُعد شهر رمضان في السودان مناسبة مميزة تزخر بالعادات والتقاليد والطقوس الخاصة، بما في ذلك المائدة الرمضانية المتنوعة، حيث تتغير مكونات المأدبة في رمضان تمامًا عما قبله من الشهور، فيقلّ الاعتماد على الخبز، ويحلّ محله بدائل أخرى مثل العصيدة من الذرة أو الدخن، أو الكسرة من الذرة، أو القراصة من القمح.
وتتشارك جميع مناطق السودان في بعض المكونات الأساسية للمائدة الرمضانية، مثل ملاح التقلية الذي يُؤكل مع العصيدة، والمشروبات الرمضانية المميزة مثل الكركديه والتبلدي والحلومر.
وتزخر المائدة الرمضانية أيضًا بمختلف أنواع البقوليات مثل الحمص المسلوق واللوبيا والعدسية، بالإضافة إلى التمر الجاف والزبيب والفواكه المجففة، وأنواع مختلفة من البليلة.
وتُضفي عادة «الموركي» طابعًا خاصًا على شهر رمضان في السودان، حيث تقوم القبائل بتقديم ما لديها من ثروات حيوانية أو زراعية أو طعام للناس، تعاوناً وتكافلاً، كما تنتشر تجمعات حاشدة للسكان خارج المساكن للإفطار، وتقديم أبرز الأكلات الشعبية مثل أكلة الدُّبة المكونة من القرع المسلوق، كعنوان لإكرام الضيف والمجتمع.
وتُعد نباتات الملوخية والبابون والتبش وعيش الريف والفول السوداني والصويا من الأكلات الأساسية في غذاء الناس طيلة أيام الشهر.
ويتميز إقليم دارفور بتنوع مائدته الرمضانية، حيث يُضاف إلى القواسم المشتركة مع باقي السودان، طعام مصنوع من اللبن الرائب والملوخية والبامية والسمك الجاف (الكجيك)، وطعام مصنوع من أوراق الكركديه الخضراء، كما يُعد الدخن أساسًا بديلًا للخبز في دارفور، وتُسمى عصيدة الدخن «الدامرقا»، ويُقدم عصيرا الدوم والقضيم على موائد الإفطار بالإقليم.
وفي شرق السودان، تلتقي المائدة الرمضانية مع عادات وتقاليد دول الجوار، مثل اليمن والصومال وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا ومصر، حيث تُضاف إلى المائدة عجوة التمر بالسمن واللبن الحليب والرايب وعصيدة القمح بأنواع متنوعة، بجانب لحوم الضأن والغنم ومستخلصات التمور.
وتُوفر الفواكه التي تزخر بها المنطقة والطبيعة الزراعية الغالبة عليها، نكهة مميزة للمائدة الرمضانية في شرق السودان، كما تُعد المخبازة من بين الأكلات الشعبية المشهورة.
وأخيرًا، يأمل أبناء السودان أن ينتهي الصراع الدموي داخل بلادهم في هذا الشهر الكريم، الذي شكل على مدار التاريخ طريقًا لإنهاء الصراعات الأهلية والقبلية حيث يتوقف فيه سفك الدماء، ويلتف الناس حول المصلحين الذين يستظلون ببركة الشهر الفضيل لإزالة كل ما علق بالنفوس من كراهية وحقد وصراعات تخالف قيم دينهم وتعاليم رسولهم الكريم.