أشد فتنة يمكن أن يتعرض لها مؤمن في هذه الحياة الدنيا هي الابتلاء في دينه والعياذ بالله، بما يؤدي لكفره بالكامل أو حتى تفريطه في الدين بدرجات، سواء بتلبيس الموازين الشرعية عليه، أو شعوره بالاستخزاء من بعض الأحكام والمفاهيم الشرعية (كالأحكام المتعلقة بالاسترقاق والقوامة) والتطبيع مع دين الإنسانية والمذاهب الوضعية.
وهذا يلفت النظر إلى قَلْب موازين النظر في زماننا بالاتكاء على تأويلات مقاصد الشريعة، فبدل أن كانت المقاصد تستنبط من الشريعة، صارت المقاصد تتخذ هي الأصل الذي يصوغ الشريعة! ومن أظهر صور ذلك مبدأ «الحفاظ على الحياة» الذي صار الهدف الأسمى من الوجود الذي يُسَخَّر له كل ما عداه، ولو كان الدين! فصارت الفتنة هي في اعتقاد المؤمن أن أشد مصيبة تصيبه هي الموت أو النقص في الدنيا، وما دونها يهون ولو كان مُصابًا في دينه سواء بالجهل به أو الغفلة عنده أو تذبذب موازينه في استبانة الحق ومؤازرته أو عدم المبالاة بأحوال الأمة.. إلخ.
وإنما الحياة المحمودة والمطلوبة والمُرادَة في التصور الشرعي هي التي بها تكون إقامة الدين، وتقوم هي على أصول الدين، لا التي يُتاجَر بالدين لأجل الإبقاء عليها! والأصل أن البذل يكون يوم يكون من حياة المؤمن في سبيل إيمانه، لا من إيمانه في سبيل حياته.
وكل الأحوال التي أجاز فيها الشرع ما يظهر أنه افتئات من الدين لمصلحة النفس لها حيثياتها التي لا تلغي ذلك المبدأ، بل تؤيده وتعضّده، من ذلك أنه إذا أُكرِه المؤمن على قول كلمة الكفر بلسانه ليحفظ نفسه «جاز» له التلفّظ بها، ولم «يجب» عليه! وكذلك الصلاة لم تُرفع عن المؤمن مهما تكن حاله، ولو في أشد موطنين؛ الحرب أو المرض المُقعِد، بل جعل لكل حال هيئات صلاة بحسبه! فتأمل في المنطق وراء هاته الأحكام، واحترمه!
وجاء في تفسير القرطبي وغيره في قول الله تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195): «كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ، فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قُلْنَا : وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ . فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةُ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحِهَا وَتَرَكْنَا الْغَزْوَ، فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ»(1).
وعليه، كيف ينظر المؤمن للمصيبة حين تصيبه؟ أهي في حقه مثوبة رفعة للدرجات أم عقوبة وتكفير للسيئات؟ وبيان الجواب كما يلي:
الحكمة الأساسية من الابتلاء هي الامتحان والاختبار للعباد على ما سبق بيانه، وهذه الطبيعة التي طُبعت عليها هذه الدار، أما الأسباب المخصوصة لابتلاء المؤمن في الدنيا فأهمها أن يكون تعجيلًا لعقوبة على ذنب بما يفتح للعبد باب توبة وتكفير وطهارة (ومن هنا كان دعاء عيادة المريض: «كفارة وطهور»)، أو يكون بشارة ثواب مؤجل له في الآخرة بصبره واحتسابه، فيكون بالتالي رفعة في الدرجة عند الله تعالى.
فإذا قيل: كيف يعرف المؤمن أهو يُمتحن تعجيلًا لعقوبة أم تأجيلًا لثواب؟ فالجواب: القطع بأحدهما لا يمكن من جهة العبد، فهذا مما علمه غيب عنه ومخصوص بجهة الله تعالى(2)، وإنما كل امرئ على نفسه بصيرة، والعبد يعلم من حاله مع الله تعالى ما يعلم، ولا يخلو أحد من تفريط ولا يمكن أن يجزم لنفسه بالامتثال النموذجي، ومن هنا عليه أن يتعامل مع الموقف بعبودية ذلك الموقف، فالعبوديات المطلوبة من المؤمن وقت الابتلاء –كما في غيره– معلومة: التوبة والاستغفار (فإذا كان الابتلاء لعقوبة يصير باب تكفير وتطهير)، والصبر والاحتساب والاستعانة بالله تعالى (وهذا ما يرفع درجة العبد عند الله تعالى).
وأما الاشتغال بخارج ما في نطاق العبودية، فيُقحم العبد فيما لا طاقة له به ولا ينفعه بل لعله يضره في دينه، كمن ينحرف لمساءلات ربه: ماذا جنيت لأستحق منك الابتلاء؟ غيري أشد مني تفريطًا ففيم انفردت بالمصيبة؟ وهكذا، أو من ينشغل بمتى يكون الفرج فيثقل عليه الابتلاء ويمل وييأس، بدل أن يشتغل بما عليه من كيفية طلب الفرج بالصبر والاحتساب والدعاء وما يتاح له من أسباب أخرى.
من جهة أخرى، يمكن للعبد أن يقيس أثر الابتلاء على إيمانه، ومدى موافقة عمله لمراد الله منه فيه، فإذا كان تعامله مع الابتلاء يدفعه للفرار إلى الله تعالى بمختلف أنواع العبودية المشروعة في هذا الموقف كالشكوى والبث والاستغاثة والمناجاة والتضرع والاحتساب والتصبّر والتصدّق؛ فهو على خير في عاجل دنياه (عاجل أمره)، وآجل آخرته (عاقبة أمره) بحمد الله تعالى.
وأما إذا وجد نفسه يفر من الله تعالى بالانغماس في الهم والغم، واتخاذ الحزن واليأس والاكتئاب عملًا، وسريان الشكوى والإحباط والسوداوية في كلامه وعمله مع الخلائق، فهو على شر يخشى عليه منه في عاجل دنياه وآجل آخرته، والعياذ بالله تعالى.
____________________________
(1) سنن الترمذي، أبواب تفسير القرآن، باب: ومن سورة البقرة، حديث رقم (2972)
(2) الجهة هنا يعني ما يتعلق بمقام الربوبية والألوهية، وليس أن الله تعالى في جهة معينة.