تميل النفس البشرية إلى الراحة، وتخلد إلى الكسل، لكن تأتيها العبادات، لتوقظها من غفلتها، وتحرك سكونها وتبعث فيها النشاط والحركة، ويظهر ذلك في الشعائر الكبرى، وهي الصلاة والزكاة والصيام والحج، لكن شعيرة الحج تتميز بالاستحواذ على النصيب الأكبر من هذا النشاط وتلك الحركة، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: الصلاة والحج يسهمان في الانتصار على النفس:
إذا كانت الصلاة تعالج الكسل وتحقق الانتصار على النفس من خلال الوضوء والقيام والركوع والسجود المتكرر في اليوم الواحد؛ فإن الحج يحقق ذلك الانتصار على النفس أيضاً، حيث لا يقدر عليه إلا الأشداء المستطيعون، والصلاة يستطيع القيام بها كل ضعيف ومريض، ويمكن أن يتم الأداء على حالة القيام أو القعود أو حتى النوم، أما الحج فيقوم به المستطيع، ولهذا كان تأثير الحج على النفس ونشاطها أقوى من الصلاة، وفي كل خير.
ثانياً: الزكاة والحج يسهمان في الانتصار على النفس:
إذا كان الانتصار على النفس في زكاة المال بجزء يسير من المال، وهو ما قدره الشرع بـ2.5%، وهو ما يعني بقاء 97.5% من جملة المال لصاحبه؛ فإن الحج يحقق ذلك الانتصار وأكبر منه، حيث إن الحج قد لا يُبْقِى للحاج بعده من ماله شيء، فمن لم يملك من المال إلا ما يكفيه في رحلة الحج زائداً على نفقة عياله حتى يعود، لزمه الحج وإن عاد فقيراً بعد حجه، وهذا ابتلاء يزيد ثقلاً على النفس البشرية أضعافاً مضاعفة عن الابتلاء المقصود في الزكاة.
لأن ابتلاء المال أثقل من ابتلاء البدن، فلو أن الناس خُيِّروا بين الصلاة والصيام ودفع المال بديلاً عنهما، للزموا الصلاة والصيام توفيراً للمال، الذي تتعلق به النفوس، وتبذل من أجل تحصيله الجهود، ويتحمل الإنسان في سبيل الحصول عليه الأعمال الشاقة، ولم لا، وقد قال ربنا عز وجل: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر: 20)، وقال عز وجل: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات: 8).
ثالثاً: الصوم والحج يسهمان في الانتصار على النفس:
إذا كان في الصوم انتصار على النفس بالصبر على الشهوات لساعات معدودة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ فإن الحج يحقق ذلك الانتصار أيضاً، بل أكبر منه، لأن الصبر على الشهوات في الحج أشق على النفس، حيث يكون لأيام متواصلة وهي مدة الإحرام، وقد يصاحب الزوج زوجته في رحلة الحج، فيزداد الأمر صعوبة ومشقة ومجاهدة للنفس.
ومن ثم فإن الحج يجمع كثيراً من الانتصارات التي تحققها التكاليف الشرعية، وبنجاح الحاج في الصبر على هذه الابتلاءات وكبح النفس عن شهواتها، يكون قد اجتاز الامتحان النهائي الجامع، وما عليه بعدئذ إلا الحفاظ على الدرجات التي نالها، انتظاراً للثواب العظيم والأجر الكريم وهو دخول الجنة(1)، حيث روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ».
وإن الناظر في فريضة الحج يجد أنها تحقق من الانتصارات في تربية النفس ما يمثل تمام البنيان واستواءه، وتحقيق أرقى ما يمكن أن يطمع المسلم في تحقيقه، ولهذا كان الحج من أفضل الأعمال، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سُئِلَ: أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ؟ فَقالَ: «إيمَانٌ باللَّهِ ورَسولِهِ»، قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: «الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّهِ»، قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ».
ومما يدل على أن الحج يبلغ بتربية النفس المقام الرفيع والدرجة العالية ما يحققه من التعارف والتآلف بين المسلم وإخوانه، هذا التلاقي والتعارف والتآلف هو الذي يتدرب عليه المسلم خطوة خطوة، من خلال الدعوة إلى الصلاة في الجماعة، والذهاب إلى المساجد، من أجل الالتقاء بالناس وتحقيق التعارف والتآلف والتماسك والوحدة بينهم، ويكون هذا في الصلوات الخمس يومياً في أقرب المساجد إلى مسكن الإنسان.
فإذا مضت الأيام وجاء يوم الجمعة فقد أكد الإسلام الخروج إلى صلاة الجمعة في المسجد الجامع، وهو المسجد الكبير، الذي يلتقي فيه أغلب الناس.
ويزداد الالتقاء والاجتماع في صلاة العيد مرتين في كل عام، وذلك بالإضافة إلى الصلوات الطارئة كالكسوف والخسوف والاستسقاء وغيرها من الصلوات التي تجمع الناس، وتحقق التقارب والتواصل بينهم.
هذا التدريب الذي يقوم به المسلم يومياً وأسبوعياً وشهرياً وسنوياً يمثل حالة من حالات التدرج والارتقاء في الانتصار على النفس الميالة إلى الكسل والراحة والانطواء أحياناً، حتى ينتصر الإنسان بهذا التدريب على نفسه.
لكن الانتصار الأكبر هو الذي يأتي من التجمع الأوسع، بما يشيع فيه من الشوق والرحمة والمودة والتآلف بين هؤلاء المجتمعين، وهو اجتماع الحج، إنه الاجتماع الذي تلتقي فيه الجنسيات المختلفة والألوان واللغات والثقافات والأعراق التي لم يرها المسلم من قبل، فيقف على عظمة الخالق وقدرته، حيث إن هذه الحشود من الملايين المجتمعة في الحج من أب واحد وأم واحدة ويهتفون بشعار واحد ويناجون رباً واحداً، رغم اختلافهم في الألوان والبلدان والألسنة، لكنهم يلتقون ويتحدون في أداء المناسك والشعائر، طلباً لرضا الله سبحانه وتعالى.
وفي هذا الموقف يستطيع المسلم أن ينظر إلى نفسه التي تميل إلى الانعزال أو الاكتفاء بدرجة محدودة من الأصدقاء أو المعارف، وينتصر عليها بتوسيع دائرة النظر إلى هذا الكم الهائل من البشر، والتعارف والتواصل معهم، تحقيقاً لقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
__________________________
(1) رؤية أزهرية لقضايا عصرية: د. عباس شومان، ص 242.