في عصر التكنولوجيا الرقمية لا يمكن إنكار التأثير العميق للابتكارات الحديثة على جميع جوانب حياتنا، خاصة الاجتماعية منها، إذ كانت أبرز التغيرات التي شهدناها في السنوات الأخيرة هي تلك التي طرأت على العلاقات الزوجية جراء تأثير وسائل «الرقمنة» على تلك العلاقات.
فالعالم الافتراضي، الذي قدم لنا، بفضل تكنولوجيا الاتصالات والشبكات الاجتماعية، أدوات تواصل مذهلة، أوجد في الوقت نفسه معاول جديدة تهدد بهدم العلاقات الزوجية، وتقطع أوثق رباط إنساني، الذي وصفه الله عز وجل في القرآن الكريم بـ«الميثاق الغليظ».
وهذه الأدوات رغم فوائدها الظاهرة قد تكون سلاحاً ذا حدين، يتطلب منا فهماً عميقاً وإستراتيجيات مواجهة فعالة للحفاظ على تماسك الأسرة في عالمنا العربي والإسلامي.
وتفرض «عولمة الرقمنة» تحدياً خاصة في هذا الإطار، إذ بات تأثير العالم الافتراضي متجاوزاً لحدود الأقطار والقوميات والأعراق والأجناس، وإزاء ذلك باتت «الخيانة الإلكترونية» ظاهرة عالمية.
وسائل التواصل
وتعتبر وسائل التواصل الاجتماعي واحدة من أبرز معاول تلك العولمة، التي تؤثر سلباً على العلاقات الزوجية، وفقاً لدراسة أجرتها الخبيرة بجامعة ستانفورد، كاثرين هامفريز، عام 2022م، مشيرة إلى أن الاستخدام المفرط لتلك الوسائل يزيد من معدلات الشك وانعدام الثقة بين الزوجين.
كما أوردت الدراسة أن 40% من الأزواج الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بكثرة يعانون من مشكلات في الثقة، حيث يشعرون بالغيرة من التفاعلات التي يجريها شركاؤهم مع الآخرين.
وكشفت دراسة أخرى، أجراها مركز «بيو» الأمريكي عام 2021م، أن 34% من الأزواج يعتقدون أن وسائل التواصل الاجتماعي تزيد من فرص الخيانة الزوجية وتؤثر سلباً على تواصلهم اليومي.
وأشارت الدراسة إلى أن الاستخدام المفرط لهذه الوسائل يزيد من التوترات الزوجية؛ ما يؤدي إلى زيادة نسبة الطلاق.
ومع ازدياد الاعتماد على الرسائل النصية وتطبيقات المراسلة الفورية مثل «واتساب» و«تيليجرام»، أصبحت هذه التطبيقات مسرحاً لمشكلات التواصل بين الأزواج، بحسب دراسة أخرى أجرتها د. إميلي روبرتس عام 2021م من جامعة هارفارد.
وتبين الدراسة أن الأزواج الذين يعتمدون بشكل مفرط على الرسائل النصية في تواصلهم اليومي يواجهون صعوبات في التواصل الوجهي، وأشارت إلى أن الرسائل النصية قد تفتقر إلى التعبير العاطفي الضروري؛ ما يؤدي إلى سوء فهم وتفسير خاطئ للنوايا.
الألعاب الإلكترونية
أما الألعاب الإلكترونية والعوالم الافتراضية مثل «Second Life»، فقد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة الكثير من الأزواج، لكن دراسة ثالثة أجراها د. جيمس باترسون عام 2020م في جامعة كاليفورنيا، أفادت بأن الإفراط في الانخراط في هذه العوالم الافتراضية يمكن أن يؤدي إلى ما يسمى بـ«العزلة الزوجية».
وأظهرت الدراسة ذاتها أن 35% من اللاعبين الذين يقضون أكثر من 4 ساعات يومياً في الألعاب الإلكترونية يعانون من تدهور في علاقاتهم الزوجية بسبب نقص الوقت والتواصل المباشر مع أزواجهم.
وإزاء ذلك، فإن أول خطوة لمواجهة تأثيرات العالم الافتراضي على العلاقات الزوجية تكمن في تعزيز الثقة والتواصل بين الزوجين في العالم الواقعي، ويمكن تحقيق ذلك من خلال قضاء وقت نوعي معاً بعيداً عن الأجهزة الرقمية.
وفي هذا الإطار، اقترحت دراسة أجراها د. جون وليامز عام 2023م في جامعة ييل، تخصيص الزوجين لوقت يومي للحديث وجهاً لوجه، ما يقلل من التوتر والشكوك ويعزز من الترابط العاطفي بينهما.
واقترحت دراسة أخرى، أجرتها د. ليزا أندرسون عام 2020م في جامعة أوكسفورد، مشاركة الأزواج في أنشطة ترفيهية مشتركة مثل الرياضة أو الهوايات الفنية ما يعزز من تواصلهم العاطفي ويقلل من تأثيرات العزلة التي تفرضها التكنولوجيا على حياتهم.
حدود رقمية
يمكن وضع حدود واضحة للاستخدام الرقمي ضمن إستراتيجية فعالة لمواجهة تغول العالم الافتراضي على علاقات العالم الواقعي، ووفقاً لـ د. سارة ميلر، في دراسة نشرتها عام 2021م، في جامعة ميشيغان، فإن الأزواج الذين يتفقون على حدود واضحة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة الإلكترونية يحققون توازناً أفضل بين حياتهم الرقمية والشخصية.
وأوصت الدراسة ذاتها بتحديد أوقات معينة خلال اليوم تكون خالية من الأجهزة، مثل أوقات الطعام والنوم.
وفي السياق ذاته، أظهرت دراسة أجراها فريق بحثي بجامعة بريتيش كولومبيا عام 2022م أن الأزواج الذين يضعون قواعد واضحة بشأن استخدام التكنولوجيا يتمتعون بعلاقات أكثر رضاً واستقراراً.
وأشارت الدراسة ذاتها إلى أن تخصيص وقت للأجهزة الرقمية والأنشطة العائلية يمكن أن يساعد في تقليل التوترات الناجمة عن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا.
كذلك اللجوء إلى الاستشارة الزوجية يمكن أن يكون ضرورياً في بعض الحالات، حسبما أظهرت دراسة أجراها د. مارك تايلور عام 2022م في جامعة كولومبيا، مشيراً إلى أن الأزواج الذين يلجؤون إلى الاستشارة الزوجية يتمكنون من تطوير إستراتيجيات فعالة للتعامل مع الضغوط الناجمة عن العالم الافتراضي.
ويضيف تايلور أن الجلسات الاستشارية تساعد الأزواج على فهم أفضل لاحتياجات بعضهم بعضاً، وتطوير مهارات التواصل الصحي بينهما.
إن العالم الافتراضي، رغم فوائده الجمة، يحمل في طياته تحديات كبيرة للعلاقات الزوجية، ومن خلال فهم هذه التحديات وتطوير إستراتيجيات فعالة لمواجهتها يكمن التحدي في الحفاظ على تماسك الأسرة وتعزيز العلاقات الزوجية في هذا العصر الرقمي.