نحاول في الجزء الثاني من مقالة حاجة العالم المعاصر إلى القرآن أن نبين أسباب تلك الحاجة في مجال من أكثر المجالات خطورة على الإنسان المعاصر، بل كوكب الأرض عامة، وهو مجال البيئة الذي أصبح مهددًا بالانهيار التام بما يهدد الحياة بصفة عامة على الأرض، وهذا التهديد يرده الخبراء والمهتمون بطريقة التعامل المعادية من جانب الحضارة الغربية المعاصرة لعناصر البيئة ومكوناتها.
حضارة معادية للبيئة
قامت الحضارة الغربية المعاصرة بأسوأ الأدوار تجاه البيئة، حيث إنها عرضت البيئة لأنماط من التدمير لم تعرفها منذ بدء الخليقة -باستثناء الطوفان الذي أعاد ترتيب شكل الأرض وصورتها لكنه لم يخل بتوازنها وحيويتها اللازمة للحياة بصفة عامة- لقد اعتمد قيام الحضارة المعاصرة على أفكار من شأنها تكريس العدوان بين الإنسان والطبيعة من ناحية، والإنسان والإنسان من ناحية أخرى، كما تضمنت تلك الأفكار الرغبة في تحقيق أقصى عائد مادي (تراكم رأس المال) بعيدًا عن الاعتبارات الأخلاقية الإنسانية والبيئية معًا، فكانت أفكار التنمية بكل أُطرها الثقافية والاقتصادية تنال من حيوية البيئة وصلاحيتها للحياة، والإخلال بمبدأ العدالة في حق الحياة بين الناس جميعًا، وحقوق الأجيال القادمة.
يعد تدهور البيئة في صورته المعاصرة نتاجاً حتمياً للتصورات والمفاهيم التي تضمنتها فاعلية النموذج المعرفي الغربي في حركته خلال القرنين الماضيين، هذا النموذج الذي قام على الأنانية الغربية، وتكريس الصراع والتكالب على الثروات، وتعظيم رأس المال والإنتاج على أية قيم وأخلاقيات معيارية، لقد كرس هذا النموذج فكرة من أسوأ الأفكار التي عرفتها البشرية؛ وهي فكرة النمو الذي يصفه مؤلفا «انتحار الغرب» بقولهما: «أدى النمو الصناعي إلى قلب المجتمع، وقسمه إلى طبقات جديدة، وركزه في المدن، وخلق تراتبيات هرمية واسعة، ودنس الريف، واغتصب الكوكب، واستنزف روح الإنسانية، وساعد على أن يقود إلى تركيز للقوة غير مسبوق، لقد انتشر النمو سريعاً في كل أنحاء الغرب، وفي غضون قرن أدى النمو الاقتصادي إلى منح الهيمنة العالمية للغرب».
إن مبدأ الاستغلال لكل موارد الطبيعة -الذي قامت عليه أفكار النمو الرأسمالي في الحضارة الغربية- واستخدام الآلات والاستغناء عن الإنسان من أجل زيادة الإنتاج بكثافة تضاعف الاستخدام الإنساني اليدوي، يعد عاملًا رئيسًا في الأزمة البيئية المعاصرة متعددة المسارات والأخطار وعلى رأسها الآن: التغيرات المناخية العالمية، وتهديد مدن بالكامل بالاختفاء، وتغير درجة حرارة الأرض، والانحلال البيئي، وهذا المصطلح الأخير تحديدًا يشير إلى موقف الحضارة الغربية المعاصر من البيئة، أو بالأحرى حصاد نتيجة التفاعل بين الحضارة الغربية بمكوناتها الفكرية والثقافية والصناعية والتكنولوجية مع البيئة، الذي يعني استنزاف كل مقدرات البيئة فوق الأرض وتحتها -لفئة لا تتجاوز 20% من سكان الأرض- بما يهدد ليس فقط حياة البشر الأحياء الآن على ظهر الأرض، بل يهدد كذلك الحياة للأجيال القادمة.
إن الإنسان الغربي الذي لا يشكل سوى نسبة ضئيلة من سكان الكرة الأرضية (20%) يستهلك ما يزيد على (80%) من مواردها الطبيعية؛ حيث يبلغ حجم ما استهلكه الأمريكيون في المائة سنة الماضية ما يساوي كل ما استهلكه الجنس البشري عبر تاريخه!
الحاجة إلى نموذج جديد لإنقاذ البيئة
إن الحالة المعاصرة للبيئة، وما تمخض عنه الفكر البيئي من ضرورة ابتكار رؤية جديدة للعالم تقوم على فلسفة بيئية ذات توجه إنساني، أمر يتطلب معه البحث عن فلسفة بيئة جذرية لإعادة تدشين الموقف الإنساني مع البيئة والطبيعة بوجه عام، هذا الاتجاه الفكري للبيئة يُحمّل الحداثة والنظام الرأسمالي والنموذج الغربي للنمو والمنظومة الصناعية العالمية ومفاهيم التكنولوجيا والنمو على طريقة «البراديم» المادي الغربي، الذي يقوم على مركزية الإنسان الأبيض للعالم يحمله كل تداعيات البيئة وانحلالها واختلال توازنها.
القرآن والنموذج الحضاري لإنقاذ البيئة
يقدم القرآن الكريم فلسفة كبرى للتعامل الراشد مع البيئة، وهو في ذلك يؤطر المفاهيم والتصورات والمحددات التي تضمن تحقيق ما يمكن أن نسميه العدالة البيئية، وهو مفهوم شامل يضمن الحقوق المتبادلة بين الإنسان والبيئة من ناحية، والبيئة والإنسان من ناحية أخرى.
أرسى القرآن عددًا من المبادئ والقواعد الأساسية لتحقيق العدالة البيئة، أولى هذه القواعد هو التأكيد على مبدأ الانسجام بين الإنسان وعناصر الطبيعة، وفي ذات الوقت ينفي فكرة الصراع بين الإنسان والطبيعة التي يقوم عليها النموذج المادي المعاصر الذي أدى إلى بناء فلسفة مُقتحِمة للبيئة، تقوم على فكرة المصارع والحلبة، وهو ما يخالف مبدأ النظام في الكون، الذي يقوم على فكرة التناسق بين مكونات الكون والتعاون الخلاق في منظومة الكون، والتوازن بين مفرداته التي لا يمكن الاستغناء لمفردة فيها عن الأخرى، والترابط بين عناصر الكون بصورة مبدعة وفريدة.
أما المبدأ الثاني، فهو مبدأ التسخير الذي يحدد طبيعة الاستجابة بين الإنسان والطبيعة من خلال تصور ناظم للعلاقة بين الإنسان والبيئة، حيث تهيئة الطبيعة وتطويعها وكل مكوناتها لصالح التعامل السوي للإنسان، بما يحقق التآلف والتناسق والتآزر باعتبارهم خصائص جوهرية للكون والاجتماع الإنساني، إن نفي الصراع في النموذج القرآني ينفي معه خاصية الصراع في الكون، ويؤكد في ذات الوقت السلام كمبدأ بيئي ونفسي وإنساني وكوني.
أما المبدأ الثالث: فهو أن العالم الذي يحيا فيه الإنسان هو منحة من الله تعالى، كي يمارس الإنسان فيه كل أوجه نشاطه وعبادته، وأن هذا العالم هو مهيأ تحت تصرف الإنسان لمنفعته وراحته وغذائه، وهذا العالم الموهوب للإنسان يتضمن كافة احتياجات الإنسان الضرورية والتحسينية والجمالية، ومن ثم فالإنسان مجبور أن يسعى بكل قواه أن يحافظ عليه، وأن يستخدمه الاستخدام العادل الرشيد، وأن ينهى عن كل منكر يتجاوز في حق مكونات هذا العالم وعناصره.
كما أن البعد الأخلاقي –المبدأ الرابع- حاضر وبقوة في النموذج القرآني للتعامل مع البيئة، ويدخل أولًا في تصميم الحاجات الإنسانية وفي تحديدها، وثانيًا في تحديد شكل الاستجابة وطبيعتها لتلبية هذه الاحتياجات والتي مصدرها بالضرورة البيئة المتضمنة وجود الإنسان نفسه، إن الإنسان وصي ووكيل عن الله تعالى في هذا الكون، بعد قبوله الأمانة أمانة الاستخلاف، وهذا القبول له شرط أخلاقي بالأساس هو المحافظة الأمانة لصاحبها بلا تبديد أو خيانة، والانتفاع بها بشروطها الأخلاقية التي حددها صاحبها ومالكها الأصيل وهو الله تعالى.
أما المبدأ الخامس للعدالة البيئية من منظور القرآن، فهو مبدأ المسؤولية الإنسانية، مسؤولية الإنسان عن كافة تصرفاته في البيئة، أمام الله خالق هذه البيئة ومودعها أمانة الإنسان، وأمام الناس، إن استشعار الإنسان بهذه المسؤولية الإيمانية والاجتماعية والحضارية يجعله يقدر تصرفاته ويحسبها بميزان الاعتدال والتوازن والمحافظة، وليس بميزان الاستغلال والنمو والصراع والتكالب.
أما المبدأ السادس فهو مبدأ النهي عن الإفساد في الأرض، سواء كان ذلك الإفساد في التراب أو الهواء أو الماء، وهذه العناصر كلها تعرضت للإفساد الغربي بالاستخدام الضار للتكنولوجيا في تجريف الأرض وقطع الأشجار والغابات وزيادة الاعتماد على الوقود الأحفوري، بما أدى إلى زيادة ثاني أكسيد الكربون وتهديد الغلاف الجوي وأخطار الاضطراب المناخي.
إن منظور القرآن لمعالجة البيئة يزخر بالمبادئ الأساسية والقيم والقواعد التي تحقق العدالة البيئية أو الأمن البيئي المفقود، فقط يجب ترويج هذا النموذج والمدافعة به ضد كل المفسدين في البيئة.