الأخلاق في زمن العولمة.. تحديات وفرص
الحديث عن العولمة ذو شجون، فتأثيراتها فاقت الحدود التي أنشئت الفكرة من أجلها، ولم يتوقف تأثيرها على عالم الاقتصاد ونشر الفكر الرأسمالي خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي.
يقول د. أحمد ياسر عبدالعظيم: «وبرغم أن ظاهرة العولمة قديمة، فإن نموها وتطورها ارتبطا بشكل وثيق بتطور النموذج الرأسمالي، بدايةً من بزوغ عصر النهضة والثورة الصناعية في أوروبا منذ نهايات القرن السادس عشر إلى الثامن عشر، ومحاولة الدول الأوروبية تدويل نموذجها الحضاري، وفرض قيم الحضارة الغربية فيما عُرف بـ«الغزو الثقافي»، وذلك وصولًا إلى التقدم التقني الهائل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات «الثورة المعلوماتية» الذي شهده العالم، وانتشار الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، والمنظمات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى خلال العقود الأربعة الأخيرة، التي سعت الولايات المتحدة الأمريكية من خلالها إلى قيادة النظام الاقتصادي والتجاري الدولي(1).
أحدثت العولمة تغيرات كبرى في جميع مناحي الحياة، حيث أثرت على الوجهة الاقتصادية للعالم في الحقب الأخيرة بشكل مبالغ فيه، وأثرت كذلك على مجموعة الأخلاق والقيم حتى كادت أن تذوب بعض الثقافات داخل الثقافة الغربية، سيما الأمريكية منها، لتصير ثقافة واحدة استطاعت باستخدام وسائلها المتطورة أن تسيطر وتهيمن على سائر الثقافات لتواجه الأمم خاصة الإسلامية تحديات كبيرة، ليس للخلاص من هيمنة العولمة وقد صارت أمراً واقعاً طالما كانت وسائلها حاضرة بقوة في مجتمعاتنا، وإنما للسيطرة على عقول الشباب وتوجيه بوصلتهم التاريخية والعقدية.
أبرز التحديات الأخلاقية في عصر العولمة
مجموعة من التحديات غير اليسيرة يلاقيها العاملون في مجالات التربية، والمهتمون بمستقبل الأمة، منها ما يتصل بالأخلاق، وبالثقافة، ومن هذه التحديات:
1- أدت العولمة إلى زيادة الهوة الاقتصادية بين طبقات المجتمع، فالنظام الرأسمالي يقدس المال، ويبرر الحصول عليه بأي وسيلة، ولا يضع في اعتباره أي عوامل أخلاقية لإصلاح حياة الناس، ولا يعترف بالتكافل الاجتماعي والرحمة بالفقراء.
2- تداخل الأخلاقيات الإسلامية بأخلاقيات السوق في التجارة، مثل استغلال العمال وتقليص أجورهم توفيراً للنفقات.
3- تحديات تتعلق بالهوية الثقافية، فصارت التعددية الثقافية الملمح الأساسي لشباب الأمة، فلا مرجعية ثابتة، ولا هوية واضحة.
4- تحديات الممارسة السياسية وفقاً للأخلاق الإسلامية، حيث تشابكت المصالح العالمية بما فيها الدول الإسلامية، وصار التعامل في المجال السياسي وفقاً للمصالح وليس الأخلاق والصدق.
5- الأثر السلبي الهائل الذي تركته العولمة في الثقافة المادية، وهو ما يتعلق بشكل الملابس، على سبيل المثال، وما يسمى بالموضة بين الفتيات والنساء دون وضع اعتبار للثقافة المجتمعية الأصيلة التي منها حكم الإسلام في ملابس المرأة.
6- تأثر اللغة العربية بشكل كبير في أوساط الشباب الذين استبدلوا لغات أخرى باللغة العربية في لقاءاتهم الخاصة، وصار هَمّ أولياء الأمور أن يُلحقوا أبناءهم بمدارس اللغات كمظهر من مظاهر التحضر.
هل العولمة واقع لا مفر منه؟
اتفق معظم المفكرين أنه لا مفر من الوقوع تحت سيطرة العولمة، باعتبار أن وسائلها المستخدمة لخدمة نشر أفكارها لا يمكن محوها من العالم الإسلامي، فلا يمكن مثلاً أن ننزع الهاتف الجوال من يد أبنائنا، ولا يمكن فرض نوع من الانغلاق التام عن وسائل الإعلام المحلية والعالمية لعزل الشباب عن العالم الخارجي؛ وبالتالي، فإن العولمة فكرة لا يمكن مقاومتها، وأن علينا إيجاد البديل المناسب للحد من آثارها على الشباب.
مؤتمر السكان من منتجات العولمة
مثَّل المؤتمر السكاني للأمم المتحدة بالقاهرة في تسعينيات القرن الماضي خطورة كبيرة على المسألة الأخلاقية، فقد أدهش العرب بالبنود الخاصة بالحرية الفردية، والسماح مع الأهواء الفردية، فالفرد هو الأساس في المفهوم الثقافي الرأسمالي كما نعرف، وقد كان الهدف الأول للمؤتمر تحقيق رغبات الفرد، بصرف النظر عن الأسرة أو المجتمع أو الدين أو الأخلاق، فتساهل، بل وقام بحماية مفاهيم الشذوذ وأطلق له أسماء أخرى للتخفيف من وقع الكلمة على أسماء المتحفظين.
كذلك حماية الحرية الجنسية والإجهاض، بل واعتمدت وثيقة الأمم المتحدة لفظ «القرينين» بدلاً من «الزوجين» كنوع من الاعتراف بالعلاقة بين الرجل والمرأة في إطار القانون، ومحاولة تمريرها لتصير عرفاً بين الناس بغير نظرة دونية لمن يفعل، كذلك تبيح الوثيقة ممارسة الجنس بين المراهقين وتأخير سن الزواج كطريقة معتمدة لتقليل الإنجاب.
إن وثيقة السكان نموذج مصغر من أخلاقيات العولمة، ومما يمكن أن يدور إن أطلق لها العنان للانتشار بكافة بنودها في بلاد المسلمين، فالغرب الأمريكي يحاول فرض حالته كنسخة كاملة للعالم كله خاصة العالم الإسلامي والشباب في القلب منه.
مواجهة تحديات العولمة الأخلاقية في بلادنا
1- الأسرة: الأسرة حائط الصد الأخير للحفاظ على النشء وتربيتهم وإعدادهم لمواجهة كافة تلك التحديات، ومن ثم فقد وجب إعداد الآباء أولاً لتحمل تلك المهمة والقيام بها.
2- على العلماء والمربين والدعاة إتقان استخدام نفس وسائل العولمة المادية مثل شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام لاستخدامها في نشر الثقافة الإسلامية، وتوجيه تلك الأخلاقيات للآخر ليمثل نوعاً من التبادل الثقافي لنشر الفكرة من ناحية، والحفاظ على الثوابت المجتمعية من ناحية أخرى.
3- أهمية استعادة دور المعلم المربي في المدرسة والجامعة، وإعطاء أهمية أكبر لتدريس المواد الدينية والقرآن خاصة والعودة لنظام الكتاتيب.
تشكل العولمة تحديات كبيرة للبشرية، ولكنها توفر أيضاً فرصاً هائلة للتقدم والازدهار ونشر كافة الأفكار لإيجاد فرصة لكل فرد أن يتخير من خلال الحوار والتعاون، يمكننا بناء عالم أكثر عدلاً ومساواة حين يكون هناك حوار محترم، لا فرض هيمنة من طرف واحد.
__________________________
(1) باحث سياسي بإدارة القضايا الإستراتيجية، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمصر.