24 فبراير 2025

|

البراجماتية الأمريكية.. والحركات الإسلامية

كريم الدسوقي

24 فبراير 2025

26

بعد نجاح الثورة السورية في إسقاط نظام بشار الأسد على يد مسلحين إسلاميين، عاد الحديث مجدداً في وسائل الإعلام عما يسمى بـ«الإسلام السياسي» وإمكانية دمجه في النظام الدولي القائم، بقيادته الغربية، والقبول بممثليه كرؤساء لدول قومية حديثة، في مقابل انتقادات أخرى في الاتجاه المعاكس للقائمين على الإدارة الجديدة في سورية، باعتبارهم يسيرون في طريق التدجين الذي رسمه له عدوهم وعدو الأمة، وبين كلا الرأيين عاد الجدل حول طريقة التعاطي مع التيارات الإسلامية ودورها الصاعد في العالم.

و«الإسلام السياسي» مصطلح روجت له وسائل الإعلام الغربية على مدى عقود، وينطلق من رؤية تنتمي إلى سياقها الثقافي النصراني، باعتبار أن الدين مكانه دار العبادة وعندما يخرج منها يصبح سياسياً، وعليه فإن الحركات التي تنطلق من رؤية إسلامية في الشأن العام تمثل إسلاماً سياسياً، وهو ما تبدو سطحية إسقاطه على الحالة الإسلامية واضحة، إذ لا يؤمن المسلمون بأن دينهم شأن روحي وأخلاقي بحت من حيث الأصل، بل يؤمنون بأنه دين الصلاة والنسك والمحيا والممات وكلها لله رب العالمين.

وإزاء ذلك، واجهت الحركات الإسلامية تحديات كبيرة في ظل النظام الدولي القائم، الذي غالباً ما يعتبرها تهديداً لاستقراره، انطلاقاً من موقف الدول العظمى المهيمنة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي تمثل امتداداً النموذج البريطاني في الاستعمار عند بُعد. 

فالقابلون لتقديم فروض الولاء والطاعة للسيد الغربي موجودون دائماً، وقربانهم الدائم هو العداء مع الحركات الإسلامية ذات الامتدادات الشعبية الواسعة، وهو ما بدا جلياً في مواقف العديد منها على مدى نحو 16 شهراً من حرب إبادة جماعية تعرض لها سكان قطاع غزة، وتحت سمع وبصر ما يسميه إعلام التضليل بالعالم المتحضر.

إن الحقيقة التاريخية تشهد بأن الفكر الأمريكي، وعلى خلاف الفكر الأوروبي، لم يقدم للإنسانية سوى فلسفة واحدة فقط، هي البراجماتية، التي نظر لها روادها: تشارلز ساندرز بيرس، وويليام جيمس، وجون ديوي، وخلاصتها أن الحقيقة ليست مطلقة، بل هي ما يثبت نجاحه وفعاليته في التطبيق ويحقق المصلحة، ومن هنا كانت السياسة الأمريكية مثالاً نموذجياً لتبني الأضداد، وهو ما يمكن أن نعزو إليها موقف النفاق الغربي الحالي من الحالة الإسلامية في سورية.

تتحدث آلة الدعاية الإعلامية في الغرب عن اعتدال طرأ على أفكار الإسلاميين السوريين، الذين صنفتهم واشنطن باعتبارهم إرهابيين في وقت سابق، وحقيقة الأمر ليست سوى تقدير موقف إستراتيجي تبنته دوائر ما أسميه بـ«الاستعمار عن بُعد»، التي ارتأت ضرورة تفكيك ما سمي بمحور المقاومة المدعوم إيرانياً بعد زلزال «طوفان الأقصى» في غزة، وذلك عن طريق إفساح المجال لأعداء هذا المحور من الإسلاميين.

لا يعني ذلك أن هؤلاء الثوار صنيعة أمريكية، بل يعني أن الاعتراف بهم إقليمياً لم يكن ليجري لولا السماحية الغربية، وهو ما يجب أن ينتبه له القائمون على أمر الإدارة الجديدة، التي تريد شراء الوقت لتحقيق أهدافها، وهو ما يريده المستعمر الغربي أيضاً لتحقيق أهدافه. 

الغرب لا يريد نشر الديمقراطية أو الاعتدال كما تروج آلة دعايته التضليلية، ولا دليل أوضح من دماء عشرات الآلاف من الأبرياء في غزة، ومحاولات الانقلاب التي جرت بإسناد غربي ضد نماذج إسلامية معتدلة (تركيا عام 2016م مثلاً) مقابل النفاق الجاري حالياً إزاء الإدارة الجديدة في سورية.

إن آلاف المعتدلين يقبعون في سجون أنظمة قمعية تدعمها واشنطن، بينما يجلس صانع القرار البراجماتي في الولايات المتحدة على طاولة تفاوض مع ممثلي حركة «طالبان» الأفغانية ويعلن قبوله لحكم تنظيمات صنفها إرهابية في سورية من قبل، وهو درس ينبغي أن يتعلمه الإسلاميون على اختلاف مشاربهم.

يتعلق هذا الدرس بالواقع الذي فرضته «طالبان» في أفغانستان والتنظيمات السورية وغيرها من الحركات الإسلامية التي امتلكت مستويات مختلفة من القوة (الخشنة أو الناعمة)، مكنتها لاحقاً من التأثير الإستراتيجي في الواقع ودفع البرجماتية الأمريكية إلى واقعية التعامل مع هذا التأثير من باب تحقيق المصلحة، في حين يتم سحق حركات أخرى، جرى تصنيفها كمعتدلة غربياً، ودون أي اكتراث بها في إعلام المستعمر.

تقودنا هذه المفارقة إلى التدقيق في الرابح الحقيقي من شراء الوقت في الحالة السورية؛ هل هو المستعمر، أم رواد الثورة من الإسلاميين؟ تجربة الإدارة الجديدة في سورية ستكشف ما إذا كان دمج الإسلاميين في النظام الدولي سيؤدي إلى تحولهم إلى علمانيين وكلاء لفلسفة الاستعمار عن بُعد التي يتقنها صانع القرار الأمريكي، أم أن بإمكانهم فرض واقع تخضع له براجماتية النظام في واشنطن.

بعض الباحثين الأوروبيين، ومنهم الفرنسي: أوليفييه روا، يرون أن هذا الدمج قد يُضعف الهوية الإسلامية للحركات ويحولها إلى قوى سياسية تقليدية (علمانية في جوهرها)، بينما يعتبر آخرون، بينهم أنصار الإدارة الجديدة في سورية، أن الإسلاميين يمكنهم إعادة ترتيب أولوياتهم دون التخلي عن مشروعهم الإسلامي.

إن حركات ما يسميه المستعمر ووكلاؤه بـ«الإسلام السياسي» تواجه تحديات كبيرة في ظل النظام الدولي الذي يسعى إلى احتوائها وتحويلها إلى كيانات خاضعة للهيمنة الغربية، وهو ما يتناقض مع جوهر الإسلام، وبالتالي مع الأهداف المعلنة لهذه الحركات، وعليه، فإن العمل تحت سقف النظام الدولي يبدو صعباً، وسياسات الاحتواء التي يقبلها الطرفان على مضض في سورية مصيرها مواجهة مرجحة في المستقبل، وهي المواجهة التي سيربحها من سينجح في شراء الوقت وتوظيفه لصالحه.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة