21 فبراير 2025

|

سقوط الخلافة العباسية.. وقفة مع الأسباب والمآلات

أ‌.د. حمدي شاهين

19 فبراير 2025

4961

في هذه الفترة التي تصاعد فيها الخطر المغولي ضد الشرق، كان الصليبيون يحاولون في الشام البقاء، في حين كانت البابوية تنفخ في الصليبيين والمغول معًا نيران أحقادها على المسلمين، وقد ذهبت ريحهم، وذبلت حضارتهم، وصدق فيهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» (رواه أحمد، وأبو داود).

كان إعصار المغول يبدو قدرًا حتمًا، لا يقف دونه شيء، فقد زحفوا على مشرق الإسلام، وقدم حكامهم الغافلون إليهم الفرصة السانحة، ذلك أن الخليفة العباسي الناصر لدين الله (575 - 622هـ) خشي غائلة خصمه جلال الدين ملك خوارزم الذي طمع في ملك بغداد، فعرض الناصر على جنكيز خان ملك المغول أن يهاجم الخوارزميين من الشرق، ويهاجمهم الخليفة من الغرب! 

صحيح أن جنكيز خان لم يعر رسالة الخليفة اهتمامًا، إذ ضن بعلاقاته التجارية مع الخوارزمية، لكن رسالة الخليفة فتحت أعين المغول على الخلافات الضاربة بين بني الإسلام، وتربص بعضهم ببعض!

ثم وقع الخلاف بين المغول والخوارزمية لما اعتدى بعض أمرائهم على قافلة مغولية، فغزا جنكيز خان أراضي خوارزم وخراسان في زحف عاصف، فأباد حواضرها الباسقات؛ سمرقند ومرو ونيسابور وبخارى وغزنة.. وغيرها، في سنة واحدة (617هـ/ 1220م). 

قُتل جلال الدين ملك خوارزم عام 628هـ بعد موت جنكيز خان بـ4 سنوات، وتولى منكو خان من بعده، فجعل أخاه هولاكو أميرًا على غرب دولته، وموكلاً بغزو ما جاورها، فتحرك هولاكو بجيشه عام 651هـ فأخضع حصون الإسماعيلية الحصينة، وأشدها منعة؛ قلعة «ألموت»، فجعلها قاعاً صفصفاً عام 554هـ، ثم أتبعها بالاستيلاء على آسيا الصغرى، وبدأ الإحاطة بالجائزة الكبرى؛ بغداد، حاضرة الخلافة، ومعقد عز الإسلام.

كانت الأمور في عاصمة الخلافة تزداد وهنًا، حين تولاها الخليفة المستعصم بالله عام 640هـ، وكان رجلاً «فِيهِ لِينٌ، وعدم تيقظ، ومحبة للمال وجمعه»، وقد ضرب بغداد فيضان هائل عام 646ه، فهدم بعض حصونها، وأنزل الضر بأهلها، زيادة على ما يعانونه من فحش الضرائب، واضمحلال التجارة بعد تخريب المغول ما طالته أيديهم من مدن وقرى قريبة منها، كما انغمس أهلها في فتن أهلية، وحروب طائفية، ففي السنة التي كان هولاكو يحشد قواته للهجوم على بغداد عام 655هـ ثارت فتنة بين السُّنة والشيعة؛ «أدت إلى نهب عظيم وخراب»، وقتل جمع من الشيعة، فتنمر من أجلهم الوزير ابن العلقمي، وكان ذلك مما هيأه للخيانة بمباطنة المغول لدخول بغداد.

كانت القيادات السياسية منقسمة إزاء خطر المغول، فبينما يرى مجاهد الدين الدوادار، قائد الجيش السنِّي، وجوب القتال، كان الوزير الشيعي ابن العلقمي يهيئ الخليفة لمصانعتهم، وإرسال الهدايا والأموال الجسيمة لهولاكو والذين معه، بينما كان الخليفة نفسه قد استبدت به أوهام القوة -وهو خلو منها- فكان إذا جاءته رسائل التهديد من هولاكو يردد: «إنَّ بَينِي وَبَينَ هُولَاكو خَان وَأَخِيهِ مِنكُو خآن صَدَاقَةٌ وَألفَةٌ، لَا عَدَاوَةٌ وَقَطِيعَة»، وقد رويت روايات عديدة عن خيانة ابن العلقمي، وكيده الطائفي، وأنه الذي أغوى الخليفة وأقنعه أن يسرح معظم جنده، ويسقطهم من ديوان عطائه، حتى لم يبق منهم إلا نحو عشرة آلاف، في حال من «القلَّة ونهاية الذلَّة» بعد أن كانوا مائة ألف أو يزيدون! 

من الحق أن نقول: إن خطة المغول كانت تقضي بالانسياح في أراضي العباسيين، وأن إسقاط الخلافة المتداعية كان جزءًا من خطة جرى العمل لها بإصرار، حتى إذا سقطت مملكة خوارزم شرقي بغداد، ودانت ولايات شمال العراق وبلاد الكرج وأذربيجان وآسيا الصغرى، وتواصلت الرسل بين المغول وصليبيي الشام والبابوية، كل ذلك كان حصارًا أكبر لعاصمة الخلافة، حتى تسقط ثمرة يانعة، ومن كل تلك الأنحاء جاءت الجيوش تحاصر بغداد، وانضم إليهم جماعات من صليبيي أنطاكية، حتى بلغ تعدادهم مائتي ألف في المحرم 656هـ/ 1258م!

كانت سياسة هولاكو تؤْثر الحروب النفسية الضارية من تدمير وحرق وإبادة جماعية، وترامت أخبار ذلك عند مسامع أهل بغداد فزادتهم رعبًا، وأساء بعضهم بحمقه إلى بعض رسل هولاكو إلى الخليفة، فزادوه حنقًا، وأرسل الخليفة إليه وفدًا به سبط ابن الجوزي الفقيه؛ فحذر الشيخ هولاكو من مغبَّة هُجومه على بغداد، وعرض عليه تسليمه خزائنها مقابل الرجوع عنها، ونقل إليه وعد الخليفة بأنَّهُ سيذكر اسمه ويدعو له في خُطب الجُمُعة، فلم يلتفت إلى كلامه، واستأنف المسير والعدة، ولم ينتبه الخليفة ولا قادته إلى تحركات المغول إلا بعدما صارت جيوشهم على مسافة 50 كيلومترًا من بغداد، وقد سارت تلك الجيوش آلاف الكيلو مترات داخل الأراضي الإسلامية دون مقاومة.

لم تقاتل بغداد قتالاً يذكر، سوى محاولة القائد مجاهد الدين التي سرعان ما ووجهت بقسوة فتلاشت، ولم يطل الحصار، إذ رفض هولاكو هدايا المهزومين، واستمتع بإذلالهم، فاستسلمت بعد 6 أيام، وخرج الأعيان والكبراء لمقابلة هولاكو فغدر بهم وأبادهم.

وسأل هولاكو الخليفة لمَّا رأى كثرة أمواله: «إِذَا كُنْتَ تَعرِفُ أنَّ الذَّهَبَ لَا يُؤكَلُ فَلِمَ احتَفَظتَ بِهِ، وَلَم تُوَزِّعَهُ عَلَى جُنُودِكَ، حَتَّى يَصُونُوا لَكَ مُلكَكَ المَورُوثُ مِن هَجَمَاتِ هَذَا الجَيشِ المُغِيرِ؟ وَلِمَ لَم تُحَوِّلَ تِلكَ الأَبْوَابَ الحَدِيدِيَّةِ إلى سِهَامٍ وَتُسرِعَ إِلى شَاطِئَ نَهرَ جَيحُون لِتِحُولَ دُونَ عُبُورِي؟»، فقال الخليفة: «هَكَذَا كَانَ تَقدِيرُ الله»، فردَّ هولاكو: «وَمَا سَوفَ يَجرِي عَلَيكَ إِنَّمَا هُوَ تَقدِيرُ الله».

ثُمَّ أمر هولاكو بجمع حريم الخليفة، فكانوا 700 زوجة ومُلك يمين، و1000 جارية، وأمر بسجن الخليفة، وأن يُمنع الطعام عنه، ولمَّا طلب المُستعصم شيئًا من الطعام أرسل له هولاكو طبقًا فيه جواهر ذهب وفضَّة، لعله يأكلها! ثم أمر بقتله.

ثم استبيحت بغداد 40 يومًا، وقتل جميع من ظفروا به من أهلها، وقدرت أعدادهم ما بين 800 ألف ومليوني نفس!

وتتبع الغزاة مظاهر الحضارة فأبادوها، وكانت الكارثة الكبرى بإضرام النار في «بيت الحكمة»، المكتبة الكبرى، وألقوا بالكتب في دجلة والفرات، حتى سالت مياهها سوداء من مدادها.

لم تظل مأساة المسلمين بعدها، فلم يمض عامان إلا وكان مماليك الإسلام في مصر يقودهم قطز، وبيبرس، يُلحقون الهزيمة الكبرى بالمغول في «عين جالوت» عام 658هـ، وينهضون الخلافة من جديد، فيبايعون لعباسي آخر في القاهرة، وتستمر حضارة الإسلام في مصر والشام، وفي المغرب والأندلس، ولن تمضي عقود حتى دخل المغول أنفسهم في الإسلام، فكانوا مددًا له، وأثارة من معجزاته.

أما الوزير الخائن ابن العلقمي فقد ولاه المغول نائبًا مهانًا في بغداد، ورأته امرأة مسلمة وهو يركب على دابته، والجنود التتر ينتهرونه ليسرع بها، ويضربون دابته بالعصا، فقالت له المرأة: «أهكذا كان بنو العباس يعاملونك؟!»، فمات بعد شهور قليلة في نفس السنة التي دخل فيها التتار بغداد، عام 656هـ؛ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111).


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة