التبعية.. كيف أعاقت نهضة المسلمين؟

لقد نجح الإسلام وبعد
عقود قليلة من انطلاق دعوته في أن يقدم نموذجا حضاريا ملهما، امتدت آثاره لقرون،
كانت خلالها الأمة العربية والإسلامية قوة رائدة في مختلف مجالات العلم والفكر
والحضارة، بل وكانت مركز إشعاعٍ لكل العالم، وقبلة يتوجه إليها أبناء شعوب الأرض.
بعض المؤرخين يرون أن
الأزياء الأكاديمية التي يرتديها الباحثون في الوقت الحالي والمأخوذة عن الأوروبيين
قد تكون مستوحاة من اللباس الإسلامي التقليدي، حيث كان العلماء المسلمون يرتدون
"الجُبَّة" الفضفاضة مع العمامة وهو ما حاول أن يقلده الأوروبيون خاصة
في العصور الوسطى، يوم كانت الأمة الإسلامية هي النموذج الحضاري الأمثل لمن أراد
أن ينهض ببلاده من الجهل والتخلف كما كان الحال الذي كانت تعيشه أوروبا في تلك الفترة
المسماة بالقرون الوسطى.
الاحتلال
والتخلف:
لكن في لحظة غفلة
تاريخية، تراجع المسلمون وتراجعت نهضتهم، وتقدم غيرهم بل وتفوقوا عليهم تفوقا
كبيرا، غير أنه وبدلا من أن يحفظ أصحاب النهضة الجديدة الجميل للمسلمين وجهوا
إليهم سهام عداوتهم وحاكوا لهم كل ما يمكنهم من خطط ومؤامرات تدميرية، فكان إعادة
سيناريو الحروب الصليبية التي حركتها الهمجية والوحشية التي تلبست ثوب التطرف
الديني مدعية زورا وبهتانا تحرير القدس.
وشهد القرن التاسع
عشر الميلادي حملات استعمارية عسكرية أوروبية جديدة استهدفت فرض السيطرة ونهب
الثروات وتقسيم أغلب البلدان العربية والإسلامية على الدول الأوروبية الاستعمارية
كفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وغيرها، والتي سعت بكل ما أوتيت من
قوة إلى إجهاض أية محاولة للاستنهاض أو لابتعاث الحضارة الإسلامية مجددا.
وقد سلك الاستعمار
لتنفيذ مخططه كل سبيل، ومن ذلك مثلا أن عمل على تقسيم العالم من خلال ما عرف
بـ"سايكس بيكو عام (1916)" فحصلت كل دولة استعمارية على نصيبها، وأطلق
"وعد بلفور" عام (1917) والذي منحته بريطانيا لليهود لتسلم بمقتضاه
فلسطين للصهاينة، وغير ذلك من المعاهدات المشبوهة كمعاهدة سيفر (1920) ومعاهدة
لوزان (1923) فضلا عن نهب وسرقة ثروات هذه البلدان.
وإزاء تلك الحالة،
أدركت قوى المقاومة الوطنية في أغلب الأوطان العربية والإسلامية المحتلة أن وجود
هذا الاحتلال بأشكاله المختلفة سيكون أهم عائق أمام أية محاولات لتحقيق النهضة
والتقدم، ومن ثم فإن المقاومة حتى يتم الاستقلال من هذه القوى الاستعمارية هو
الخطوة الأولى في طريق النهضة.
كابوس
التبعية:
والحقيقة أن ما راهنت
عليه القوى الوطنية للبلدان المحتلة هو عين الصواب، لكن في مقابل هذا الوعي كان
هناك وعي آخر للقوى الاستعمارية أكثر مكرا وخبثا، ففي الوقت الذي نجحت فيه
المقاومة الوطنية ونضال الشعوب في إجبار جيوش المحتل على أن ترحل عن البلاد في
الوقت الذي تمخض فيه المكر الاستعماري عن حيلة جديدة يحقق بها أهدافه وبأقل
الخسائر والتي تجسدت في التبعية له.
وليس ثمة مبالغة إذا
قلنا إن ما حققه الغرب ولم يزل يحققه جراء التبعية أكثر وأخطر مما حققته جيوشه
الجرارة، إذ كان الصراع في مرحلة الاستعمار صراعا واضحا يسهل معه التمييز بين من
هو مع الأمة وبين من هو ضدها، بل إنه أفرز العديد من الاتجاهات والتيارات التي
استمسكت بهوية الأمة دفاعا عنها في مناهضة هذه القوى الاستعمارية، فيما أن مرحلة
التبعية هي مرحلة ضبابية تتوه خلالها الكثير من الحقائق ويسود فيها اللون الرمادي
وتمنح الكثير من المدعين فرصة التصدر والتملق ونشر الزيف والأكاذيب.
فالتبعية ليست إلا
شكلا من أشكال الاحتلال يفقد معها التابع معنى الاستقلال في كل شيء، بما فيها
القدرة على اتخاذ القرارات المصيرية، فضلا عن الاعتماد على الخارج في مختلف
المجالات، لتكون النتيجة انصياعا لإملاءات الدول الكبرى سياسيًا واقتصاديًا
وثقافيًا، مما يؤدي لتراجع قدرتها على تحقيق تنمية حقيقية ومستدامة.
اقرأ أيضا: المناهج
التعليمية.. ومواجهة التبعية والاستلاب الحضاري
بين
النهضة والتبعية:
يظن البعض أنه ليس كل
تبعية عائقا للنهضة، ومن ثم فإن بعض أشكالها لا يمثل تحديا للنهوض، وهو قول مناف
للحقيقة، فعلى الرغم من أن للتبعية أشكالا متعددة فإنها معقدة ومتداخلة، فالرضوخ
لشكل يعني الرضوخ لبقية أشكالها فيصبح التابع أسيرا مقيدا بيد قوى الهيمنة.
فالتبعية السياسية
تعني أن القرارات السيادية للدول الإسلامية خاضعة لضغوطات وتوجيهات خارجية ما
يمنعها من تبني سياسات تخدم مصالحها الوطنية والإسلامية، الأمر الذي يجعل منها
مصدرا سهلا للاستغلال من قبل قوى الاستعمار الذي يلزم الدول الإسلامية بضرورة
الاعتماد على الدول الكبرى في استيراد المنتجات الأساسية والتكنولوجيا واعتماد
اقتصاداتها على المساعدات والقروض لتتحقق التبعية الاقتصادية.
وبطبيعة الحال فإن
هاتين التبعيتين السياسية والاقتصادية تمهدان لتبعية فكرية وثقافية تتأثر فيها
الدول الإسلامية بالنماذج الفكرية الغربية ومحاولة تطبيقها، دون مراعاة خصوصيات
المجتمعات الإسلامية مما يؤدي إلى مسخ الهوية الإسلامية وانحراف المجتمعات عن
قيمها الأصيلة، الأمر الذي ينتج عنه تبعية علمية يضعف خلالها البحث العلمي ويتنامى
الاعتماد على الغرب في كل شيء.
اقرأ أيضا: أبناؤنا بين
المقاومة والتبعية.. دور التربية في صناعة الصمود
الإسلام
والتبعية:
التبعية إذن ليست
مجرد خللٍ في منظومة الحكم أو الاقتصاد، لكنها أزمةٌ حضاريةٌ عميقة أدت لتعطيل
مشروع النهضة، وهو ما حذر منه الإسلام بشدة في كتاب الله وأحاديث النبي صلى الله
عليه وسلم، فحذر من التقليد الأعمى، وفرق في الوقت ذاته بين هذا التقليد وبين طلب
الحكمة، قال الله تعالى في الآية 48 من سورة المائدة: (وَلَا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)، أي لا تتبع أهواء
الأمم الأخرى بالانحراف عن الحق الذي جاء به الإسلام، بل إن هذا الاتباع سيؤدي
حتما إلى الخذلان في الدنيا مصداقا لقول الله تعالى: (لَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ
اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (البقرة: 120).
وفضلا عن العديد من
الأحاديث النبوية التي جاءت لتعضد هذا التحذير القرآني، فإنها أيضا تنبأت بما سيقع
من المسلمين من تبعية للمناوئين وللأعداء، ففي الحديث الشريف عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعنَّ سننَ من كان قبلكم
شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لدخلتموه.. قلنا: يا رسول
الله، اليهودُ والنصارى؟ قال: فمن؟" (رواه البخاري ومسلم)، فالتحذير
هنا من تقليد في العادات والأفكار والسلوكيات المخالفة لشرع الله، حتى لو كان ذلك
في الأمور التافهة أو الضارة.
الحل
والعلاج:
على الرغم من أن واقع
العالم الإسلامي يشير إلى خطورة ما آلت إليه أحواله نتيجة التبعية، فإن العالم
الإسلامي لم يعدم أن يكون من بين أبنائه من يدفع لبذل ما في الوسع لمناهضة هذه
التبعية، واستحثاث المسلمين على التخلص من التبيعة، وإعادة ابتعاث مجد الأمة
وحضارتها وهي الجهود التي تمثل أملا في تحقيق النهضة، من خلال إصلاح التعليم
وإحياء البحث العلمي، والإصرار على الاستقلال الاقتصادي، والاهتمام بالتقنية
والصناعة، وتعزيز التكامل والوحدة، والتخلص من الخلافات المصطنعة.
اقرأ أيضا: د. سامي العريان
لـ«المجتمع»: «إعادة تشكيل الشرق الأوسط» تعني تسليم مفاتيح المنطقة