حاجة البشرية إلى مشترك إنساني في وجه غطرسة الصهاينة (1 - 2)

المتتبع لما يحدث في العالم من حروب مهلكة، وصراعات طاحنة، ونزاعات فتاكة، وتوترات مريرة، وأشدها غطرسة وإجراماً من المحتلين الصهاينة لفلسطين، يتساءل: ألا يعيش البشر على كوكب واحد؟ أليس بينهم أي مشترك إنساني أو ديني يجمعهم على وفاق وحياة سلمية؟ أمَا آن لهم أن يجتمعوا على كلمة سواء؟
لقد اتضح لنا
خلال الحرب الضروس على غزة فشل وعجز الهيئات الدولية أمام غطرسة المعتدي ومن يؤيده؛
ذلك لأن ادعاء الحق بالعدوان، لا قوة الحق، هو الذي يسود، والمجتمع الإنساني في
حاجة إلى بدائل عن تلكم الهيئات الدولية، بدائل تعتمد على الجانب الإنساني من الإنسان؛
هؤلاء الذين خرجوا بمئات الألوف في كثير من مدن العالم ينصرون أهل الحق الأبلج ضد
أهل القوة الغاشمة، هؤلاء وغيرهم لو توحدوا على المشترك الإنساني وكوّنوا جماعات
ضغط مؤثرة في بلادهم ثم على مستوى العالم، وانضم إليهم شخصيات نيابية وفكرية
ودينية وأكاديمية وفنية ورياضية وإعلامية، ليحاصروا أي معتدٍ ويعزلوه عن أي دعم من
بلادهم، وليس فقط لتغيير الرأي الشعبي العام بل لتغيير سياسات النخب الحاكمة.
المجتمع الإنساني بحاجة إلى بدائل عن تلكم
الهيئات الدولية تعتمد على الجانب الإنساني من الإنسان
ويحق لنا أن
نقول: إن مجرمي دولة الاحتلال الصهيوني لا ينتمون إلى الجماعة الإنسانية، فقد
انسلخوا عن أي إنسانية، وقد كشروا عن أنيابهم لتحقيق الدولة المجرمة الكبرى من
النيل إلى الفرات، بل وما بعدهما، بدهس من يقف أمامهم بلا رحمة؛ ما يجعلهم عدو
البشرية الأول الذي لا يأبه لأي قانون أو خلق أو عرف أو شريعة، وإن لم تتكاتف
البشرية -المختلفة على نفسها أصلاً- لإيجاد مشترك بينهم يقف سداً أمام الطوفان
الصهيوني المجنون؛ لغرقوا جميعاً!
النزاعات
تضاعفت الصراعات
العالمية خلال السنوات الخمس الماضية، ويوجد 50 دولة تشتعل فيها النزاعات المسلحة،
وواحد من كل ثمانية من البشر يكتوون بنارها(1)، ووفقاً للأمم المتحدة،
فإن 4 من كل 10 مدنيين قتلوا في النزاعات هم من النساء، و3 من كل 10 من الأطفال،
وتشير هذه الأرقام المزعجة إلى أن الطريق إلى السلام العالمي، الضروري للتنمية، قد
تعرقل مساره، واستمرار الصراعات يتسبب في معاناة إنسانية هائلة، ووصل عدد النازحين
قسراً إلى 120 مليون شخص(2).
وما يحدث
للأطفال، مستقبل البشرية، يحتاج من هذه البشرية إلى الوصول إلى مشترك إنساني ينقذ
أطفالهم من براثن الفقر والحرمان، ففي حين ارتفع الإنفاق العسكري العالمي للعام
التاسع على التوالي، ليتجاوز 2.4 تريليون دولار(3)، يعاني نحو مليار
طفل في العالم من فقر متعدد الأبعاد إلى الضروريات من الغذاء والماء والمأوى
والتعليم والرعاية الصحية.
الاختلاف
الإنساني
إن مشيئة الله تعالى
وحكمته اقتضت اختلاف الناس في قبول الحق، فالدعوة عامة والتوفيق خاص، كما بينه
تعالى بقوله: (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ
وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (يونس: 25)، وقال سبحانه: (وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن
بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ
فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ
وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: 253).
فالمشترك
الإنساني هو الاشتراك في الخَلق والوجود، وفي المصالح، وفي القيم والمبادئ الكلية
والعليا، ومن معانيه المتقاربة: القيم المشتركة، أو المشترك الحضاري البشري، أو
الإنسانية المشتركة، أو الأخلاق العالمية، أو المشترك الأخلاقي، وقيل: إنه القيم
الإنسانية الموجودة في جوهر كل الأديان والحضارات، التي تلبّي حاجيات الإنسان
الفطرية من حيث هو إنسان(4).
المشترك الإنساني هو الاشتراك في الخَلْق
والوجود وفي المصالح وفي القيم والمبادئ الكلية والعليا
وعرّف الحارثي
بأنه مجموع الأفكار التي يتفق أو يتوافق الناس، كلّهم أو جُلّهم، إلا ما شذ، على
القول بها فطرة وعقلاً واجتماعاً، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، ومصادر
الاشتراك هي الفطرة، ثم العقل السليم الصريح، أو قطعيات العقل وإجماعات العقل
الإنساني الجمعي، وكذلك شرعُ من قبلنا، أما المداخل المقاصدية المؤسسة لمشروعية
المشترك الإنساني، فهي: مدخل عمارة الأرض، والمدخل الأخلاقي، ومدخل التعارف
والتعاون الإنساني(5).
التأسيس
القرآني للاجتماع على مشترك إنساني
قال تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن
صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى
الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)؛ قال ابن عاشور: إن واجبكم أن تتعاونوا بينكم على فعل
البر والتقوى، وإذا كان هذا واجبهم فيما بينهم، كان الشأن أن يعينوا على البر
والتقوى، فلا جرم أن يعينوا عليها كل ساع إليها، ولو كان عدواً، فهم وإن كانوا
كفاراً يعاونون على ما هو بر؛ لأن البر يهدي للتقوى، فلعل تكرر فعله يقربهم من
الإسلام.
ويقول ابن بيه:
إن آية المائدة تدخل في التعاون على البر والتقوى، وقد نزلت في العلاقة مع
المشركين المحاربين فكيف لا يجوز مع المواطنين المسالمين(6).
التأسيس
النبوي
أخرج البيهقي في
«سننه الكبرى» قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد شهدت في دار عبدالله
بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى إليه في الإسلام لأجبت»؛ فالإسلام
جاء بإقامة الحق ونصرة المظلوم، والنبي قد حضر «حلف الفضول»، وهو عليه الصلاة
والسلام أبعد ما يكون عن عقائد المشركين ووثنيتهم، لكن القاسم المشترك الذي كان
قائماً بينهم هو إقامة العدل.
وفي صحيح مسلم
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف، كان في
الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة»؛ قال ابن الأثير: أصل الحلف: المعاقدة
والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن
والقتال بين القبائل، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله: «لا حلف في
الإسلام»، أما ما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم، وصلة الأرحام، كـ«حلف الفضول»
وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه: «لم يزده الإسلام إلا شدة»، من المعاقدة على
الخير ونصرة الحق(7).
وفي السياق نفسه،
أوصى الكيلاني بضرورة انخراط المسلمين في التحالفات الدولية والإنسانية التي تخدم
مقاصد شرعية، أو تنتصر لقيم إنسانية، أو تدعو لفضائل أخلاقية، كالجمعيات الداعية
إلى محاربة الفقر والأمية والجريمة، ومقاومة الاستبداد والفساد، والحفاظ على
البيئة، ونشر التوعية الأسرية، ومنع الإجهاض والشذوذ الجنسي، وغيرها من المجالات
الإنسانية الفاعلة التي يمكن التعاون فيها(8).
______________________
(1) - ACLED, Conflict Index: December 2024.
(2) United Nations Statistics Division, The Sustainable
Development Goals Report 2024.
(3) Stockholm International Peace Research Institute,
Yearbook 2024.
(4) رفيع،
النظر الشرعي في بناء الائتلاف وتدبير الاختلاف (دار السلام للطباعة، 2012)، ص17.
(5) الحارثي،
التأسيس المقاصدي للمشترك الإنساني، في: مقاصد القرآن الكريم (3): تحرير العوا
(لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 2018)، ص153-175.
(6) عبدالله بن
بيه، الولاء بين الدين وبين المواطنة، المجلس الأوروبي للإفتاء.
(7) ابن الأثير،
النهاية في غريب الحديث والأثر (بيروت: المكتبة العلمية، 1979) ج1، ص424.
(8) الكيلاني،
مقاصد القرآن الكريم وأثرها في بناء المشترك الإنساني، في: مقاصد القرآن الكريم
(3)، ص121-251.