12 فبراير 2025

|

الخبرة والحكمة في إدارة الدول

خالد محمد علي

12 فبراير 2025

34

تسير الدول، وخاصة في العالم الثالث، مع شخصية قائدها الذي يكون له دور كبير في تحديد مسارها نحو النهضة أو الركون إلى التخلف والانهيار، حيث يلعب دور الرئيس أو القائد المحرك الرئيسي للأحداث والوقائع؛ نظرًا لغياب الديمقراطية والمشاركة الفعالة من نخب المجتمع في الحكم.

 

شروط القائد الناجح

ووفقًا لمعظم دراسات علوم الاجتماع السياسي فإن شروطًا كثيرة يجب توافرها في شخصية القائد للنهوض بدولته وشعبه، في ظل التنافس الكبير والمتلاحق الذي يشهده العالم. 

ومن أخص هذه الشروط هو توفر الخبرة في إدارة الدولة عند القائد، وفي اختياراته لمعاونيه لإدارة الدولة.

 

خبرة وحكمة

تؤكد دراسات عدة أن الخبرة وحدها لم تعد كافية لإدارة الدولة بكل أزماتها، أو اتخاذ القرارات المفصلية والاستراتيجية التي تحدد موقعها على خارطة الحداثة، لكن الحكمة أصبحت ضرورة لملازمة الخبرة في شخصية القائد، أو من يدير الدولة، خصوصًا إذا كان هو صاحب القرار الرئيسي، وربما الوحيد في هذا الشأن.

 

كثيرًا ما تكون معطيات الخبرة غير كافية لاتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب، لأن الحكمة هي التي تحدد الظرف المناسب في اتخاذ القرار السليم، إضافة إلى طريقة تنفيذ هذا القرار السليم، سواء كان عاجلًا أو تدريجيا.. كاملًا أو منقوصا.

 

قرارات مدروسة

 

تُعرَّف الخبرة بأنها: المعرفة والمهارات المكتسبة من خلال الممارسة والتجربة الطويلة، في مجال معين.
وفي سياق إدارة الدولة، تمكن الخبرة القادة والمسؤولين من التعامل مع التحديات المختلفة؛ استنادًا إلى تجارب سابقة، مما يسهم في اتخاذ قرارات مدروسة وفعالة. كما أشار الفيلسوف اليوناني أرسطو، "الحكمة تبدأ من التجربة"، مما يعني أن القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة تنمو عبر تراكم الخبرات السابقة.

 

والقرارات المبنية على الخبرة غالبًا ما تكون أكثر دقة وأقل عرضة للأخطاء، لأن أصحابها يعتمدون على معرفة مستمدة من مواقف مشابهة سابقة، وقد أظهرت الدراسات أن المسؤولين ذوي الخبرة الطويلة في الشؤون العامة لديهم قدرة أكبر على التفاعل بإيجابية مع الأزمات السياسية والاقتصادية، ما يجعلهم أكثر كفاءة في قيادة البلاد نحو الاستقرار والتنمية.

 

والحكمة ليست مجرد تراكم للمعرفة، بل هي القدرة على توظيف هذه المعرفة بشكل صحيح في صنع القرار، فهي تتطلب فهمًا عميقًا للأمور، والقدرة على الموازنة بين المصالح المختلفة، والتعامل مع التعقيدات السياسية والاقتصادية بحنكة.

 

والقادة الذين يتحلون بالحكمة قادرون على بناء جسور الثقة بين الحكومة والمواطنين، حيث يتعاملون مع الأزمات بحكمة وهدوء، ويسعون لتحقيق التوازن بين المصالح الوطنية والدولية، وفي عالم السياسة والإدارة العامة، فإن الحكمة تسهم في تقليل النزاعات، وتحقيق العدالة، وضمان استقرار الدولة على المدى الطويل.

 

ووفقًا لما سبق، لا يمكن فصل الخبرة عن الحكمة لإحداث نتائج أفضل في إدارة الدولة وأزماتها، فتراكم الخبرات ليس كافيًا لاختيار الوقت المناسب لاتخاذ القرار، فالحكمة هي التي تصل بنتائج القرار المطلوب إلى صورته المثلى دون خسائر حالية أو مستقبلية.

 

وعند النظر إلى السياسات العامة، نجد أن القادة الذين يجمعون بين الخبرة والحكمة يكونون أكثر قدرة على التعامل مع القضايا المعقدة، مثل الإصلاحات الاقتصادية، وإدارة الموارد الطبيعية، وتعزيز الأمن القومي، فمثلًا، تتطلب سياسات الحد من الفقر والتغير المناخي مزيجًا من الفهم العميق للبيئة الاجتماعية والاقتصادية، إلى جانب قدرة حكيمة على اتخاذ قرارات طويلة الأمد تضمن الاستدامة.

 

وتشكل إصلاحات صندوق النقد الدولي أبرز الأمثلة على ضرورة تلازم الخبرة والحكمة في التعامل معها، لأن هذه التوصيات في ظاهرها صيغت بشكل علمي، ووفقًا لدراسات اقتصادية وضعها خبراء ذوو خبرات عالمية، ولكن الحكمة هي من تفرز ما يجب تطبيقه، وما لا ينبغي، ومتى تقبل، ومتى ترفض، طبقًا لحكمة القائد في كل دولة من دول العالم.

 

أمثلة عملية

ويمكن استخلاص أحد الأمثلة من الدولة الإسلامية في عصرها الأول عندما أقال الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قائد جيوش المسلمين خالد بن الوليد، رضي الله عنه، وهو في أوج انتصاراته، وذلك بعدما دخل خالد 100 معركة لم ينهزم في أي منها، فأصبح أيقونة المسلمين للنصر، فخشي عمر بن الخطاب أن يُفتن المسلمون بخالد بن الوليد ويعتقدوا أن النصر منه وليس من الله، وأنه لا يمكن لقائد آخر أن يحقق الانتصار على الأعداء، وهو ما يجهض فكرة التخريج الدائم للقادة الجدد حتى تتواصل الخبرات، فلجأ الفاروق إلى إقالة خالد وإسناد قيادة الجيوش إلى أبي عبيدة بن الجراح، فأحدث ابن الجراح أول إعادة هيكلة لجيش المسلمين، إذ قسّم الجيش إلى 36 كتيبة مشاة وأربع كتائب للخيالة، وتولى هو قيادة صفوة الخيالة المتحركة، وجعلها كقوة احتياطية، وكان من حكمة ابن الوليد أيضًا أنه لم يعترض وحارب كجندي تحت قيادة أبي عبيدة حتى انتهت المعركة.

 

ويعتبر مؤرخون إسلاميون أن حكمة الفاروق هي من منحت جيوش المسلمين فيما بعد الثقة في أن يكون كل منهم قائدًا للحرب والانتصار على العدو.

 

ومن الأمثلة الحديثة التي شهدها التاريخ على امتزاج الحكمة بالخبرة، تلك التي تذكر عن ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني، خلال الحرب العالمية الثانية، إذ كان يتمتع بخبرة عسكرية وسياسية واسعة، لكنه كان أيضًا يتمتع بحكمة فريدة مكنته من توحيد الأمة البريطانية في مواجهة التحديات.

 

 

وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى نماذج من القادة الذين يفتقدون لعنصري الخبرة والحكمة معًا، عندما يتصدون لإنهاء أزمة مَّا، مثلما هو حادث الآن مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أعلن أنه سيقوم بالاستيلاء على غزة بحجة إعادة إعمارها، وتشييدها لتكون منتجعا سياحيا عالميا، أو كما أسماها ريفييرا الشرق الأوسط، وذلك بعد تهجير الشعب الفلسطيني إلى مصر والأردن.

 

والخبرة التي افتقدها الرئيس الأمريكي تقول إن الشعب الفلسطيني هو أكثر شعوب العالم تمسكًا بأرضه، وأنه قدم في غزة نموذجًا أسطوريًا للتمسك بوطنه، حتى ولو كان حطامًا وترابًا وفضاء يفتقد لأبسط مقومات الحياة، وقدمت مشاهد العودة من جنوب غزة إلى شمالها ملاحم أسطورية لشعب يتمسك بأرضه، حتى ولو كانت أنقاضًا وتحيط بها الألغام والمتفجرات من كل مكان، أما الحكمة التي افتقدها أيضًا فهي أن هذا المقترح يمكن أن يوحد العالم العربي والإسلامي، والعالم الحر بأسره ضد الإدارة الأمريكية الجديدة.

 

ويبقى أن بناء الدول الأكثر فاعلية على طريق النهضة يتطلب مزيجًا من الخبرة المتراكمة والحكمة في اتخاذ القرارات، فالقادة الذين يجمعون بين هذين العنصرين يتمتعون بقدرة أكبر على تحقيق الاستقرار، ودفع عجلة التنمية، وتحقيق الأهداف الوطنية بكفاءة، ويعد هذا المزيج الأساس الذي تقوم عليه مبادئ الحكم الرشيد، حيث يضمن قرارات أكثر دقة، وسياسات أكثر فاعلية، ورؤية مستقبلية تحقق الازدهار لمجتمعاتنا العربية والإسلامية.

 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة